كتبت/ ماريان مكاريوس
فيروز تلوح أمام محبيها من جنازة ولدها زياد الرحباني بمزيج من العذوبة والأسى، وباطنه وجع و نار لا تهدأ. لم تكن أوجاعها صاخبة يومًا، بل هادئة تشبه بكاء الأرواح لا صراخ الأجساد. بصوتها الذي صار صلاة سماوية، غنّت للحب والوطن والحياة، لكن الحزن الذي لم تتمناه لنفسها ولا لذريتها اختارها ليُقيم فيها. هكذا، ومنذ رحيل ابنتها «ليال» عام 1988، ثم ابنها الأكبر زياد الرحباني عام 2025، اختبرت فيروز مرارة الفقد مرتين، وظل السؤال يلاحقها في أعين عشاقها: كيف تصبر؟
ليال.. الفقد الأول وصمت الإعلام
«ليال» هي الابنة الثالثة لفيروز من عاصي الرحباني، وُلدت عام 1960، وعاشت بعيدًا عن الأضواء مقارنةً بأشقائها. في يناير 1988، تعرضت لأزمة دماغية مفاجئة أدخلتها العناية المركزة. لم يمضِ يومان حتى فوجئت العائلة بإذاعة لبنان الحر تعلن خبر وفاتها، بينما كانت لا تزال على سرير المرض تصارع الحياة. كان مصدر الخبر عمها منصور الرحباني، لكن شقيقتها ريما وحدها من أدركت حجم المأساة، فاتصلت بالإذاعة غاضبة ثم ابتلعت وجعها في صمت. بعد ساعات، فارقت ليال الحياة عن عمر 29 عامًا، بالمرض نفسه الذي كان قد خطف والدها عاصي قبل عامين.
جنازة ليال مرّت بسيطة، بلا صخب إعلامي، كأنما كانت العائلة تُصرّ على أن يبقى حزنها حميميًا وبعيدًا عن عدسات الصحافة. سنوات لاحقة، كتبت ريما رثاءً مؤلمًا أشارت فيه إلى أن موت أختها سُرق حتى في لحظته الأخيرة، حين أُعلن خطأً قبل أن تتحقق الفاجعة حقًا.
عاصي والغياب الذي أطلق شرارة زياد
قبل رحيل ليال بسنوات، كانت العائلة قد واجهت محنة أخرى مع الأب المؤسس، عاصي الرحباني. في 1973، وبينما كان يحضّر لمسرحية «المحطة»، أصيب بنزيف حاد في الدماغ أدخله المستشفى وأبعده عن العمل المسرحي. كان زياد وقتها فتى في السابعة عشرة، يراقب وجع أمه وحزنها وهي تصعد إلى المسرح لتكمل البروفات. لحظة رأت كرسي عاصي الفارغ على الخشبة، غمرها الصمت وانكسر قلبها أمام الجمهور والفرقة.
منصور الرحباني، الذي كان شاهداً على الموقف، كتب كلمات تعبّر عن ألم الغياب وسأل زياد أن يلحّنها. كانت تلك أول تجربة لزياد في التلحين، فجاءت أغنية «سألوني الناس»، التي صارت لاحقًا واحدة من أكثر أغاني فيروز صدقًا وخلودًا:
> سألوني الناس عنك يا حبيبي
كتبوا المكاتيب وأخذها الهوا
بيعزّ عليّ غني يا حبيبي
ولأول مرة ما منكون سوا.
الغريب أن عاصي عندما استفاق وسمع الأغنية غضب في البداية، ورأى فيها استغلالًا لمرضه، لكن الأغنية تحولت لاحقًا إلى أحد أنبل تجليات الحب الإنساني في الغناء العربي.
زياد.. الموهبة المتمرّدة ورفيق الأم
ولد زياد عام 1956، الابن البكر لفيروز، وكان منذ مراهقته حالة فنية استثنائية تمزج العبقرية بالتمرد، والفكاهة بالحزن. لم يكن مجرد ملحن، بل كاتب مسرحي، مؤلف موسيقي، وعازف بيانو بارع. أعماله كسرت الأطر التقليدية للموسيقى العربية؛ مسرحياته الساخرة مثل «بالنسبة لبكرا شو» و«فيلم أميركي طويل» رسمت صورة واقعية لبلاد ممزقة بالحروب والأزمات، فيما كانت ألحانه لفيروز تحمل في طياتها ثورة ناعمة على المألوف.
من اللحظات الإنسانية المفصلية في حياته، أغنية «كيفك إنت» التي كتبها بعد تجربة حب شخصية. زياد كان قد سافر إلى الخارج ليتزوج دلال كرم رغم تحفظات العائلة، وبعد سنوات عاد فجأة إلى بيروت والتقى فيروز مصادفة. سألته بدهشة: «كيفك إنت؟ عم بيقولوا صار عندك ولاد؟»، وأكملت: «أنا والله كنت مفكرتك برات البلاد». العبارة الصادقة هزته من الداخل، فكتب ولحّن الأغنية الأشهر التي صارت عنوانًا للحب والشوق والخذلان في الوجدان العربي.
رحيل زياد.. الحزن المتجدد في قلب فيروز
في يوليو 2025، رحل زياد الرحباني عن عمر 69 عامًا، مجددًا جرح الفقد في قلب فيروز. غيابه ليس مجرد فقدان ابن، بل رحيل شريك فني حمل مشروع الرحابنة إلى مناطق جديدة من الجرأة والواقعية. بموته، فقدت الأغنية العربية واحدًا من أكثر عقولها الموسيقية حدة وتمردًا، وفقدت فيروز سندًا كان رغم اختلافاته معها دائم الحضور في حياتها الإبداعية.
مشهد الحزن اليوم يعيد إلى الأذهان ذلك الفقد الأول لليال: جنازات صامتة، حزن متكتم، وأم تحمل صليبها وحدها. لكن الفرق أن العالم الآن أكبر ضجيجًا، وموت زياد لا يمكن أن يمر بهدوء؛ مواقع التواصل تعج بالرثاء، والأجيال الجديدة تكتشف إرثه من جديد، في موسيقى تصمد أمام الزمن وكأنها سجلّ لذاكرة جيل كامل.
فيروز.. بين الأسطورة والإنسانة
على امتداد مسيرتها، تشكّلت صورة فيروز في وعي الناس كرمز يتجاوز حدود الفرد العادي. صارت «جارة القمر»، «أرزة لبنان»، و«صوت الصلاة». لكن خلف الألقاب، هناك امرأة تحمل أثقال الحروب والانقسامات وأوجاع الأمومة. محمد عبد الجواد وصفها في كلمات مؤثرة بأنها «الام الحزينة؛ تتحد مع كل حزن أغانيها الذي لم تتمناه حتمًا لنفسها ولا لذريتها،فيروز الت كانت تقدس العائلة امام الفن و لكن كان نصيبها من العالم ظاهره المجد وخلود الأغاني وباطنه ثقل الكون كله».
هذه الصورة الأيقونية ليست مبالغة؛ فأغاني فيروز التي تبدو للناس طقسًا صباحيًا أو خلفية للحنين، خرجت في معظمها من رحم الفقد الشخصي: غياب عاصي، موت ليال، وأخيرًا رحيل زياد. كل أغنية بدت وكأنها صلاة خاصة، أو محاولة لالتقاط المعنى وسط الخراب.
إرث الرحابنة.. ما بعد زياد
برحيل زياد، ينطوي فصل كامل من إرث الرحابنة الذي شكّل هوية موسيقية للبنان والعالم العربي. هذا الإرث بدأ بثنائية عاصي ومنصور، تبلور في صوت فيروز، وتجدد بجرأة زياد الذي مزج الجاز والموسيقى الكلاسيكية بالتراث المشرقي. بقيت ريما، المخرجة والكاتبة، تحمل شعلة العائلة بطرق مختلفة، فيما يعيش هالي، الأخ الأكبر المقعد، بعيدًا عن الأضواء.
لكن ما يثير الدهشة أن هذه العائلة، رغم مآسيها، منحتنا لحظات موسيقية خالدة صنعت ذاكرة أجيال: من «نحن والقمر جيران» إلى «كيفك إنت»، مرورًا بمسرحيات «بياع الخواتم» و«بالنسبة لبكرا شو». فيروز لم تغنِّ فقط عن الحب؛ غنت عن الصبر، عن الانتظار، عن الخسارات التي تتكرر ولا تترك للإنسان إلا صوته ليقاوم بها.
الوداع الأخير
اليوم، بينما يودع العالم زياد الرحباني، يبدو المشهد كأنه وداع مزدوج: وداع الابن والرفيق، ووداع فصل كامل من تاريخ الأغنية العربية. ستقف فيروز، ربما في صمتها المعتاد، تراقب محبيه يودعونه، كما راقبت العالم يودع عاصي وليال من قبل. صمتها هو الرسالة الأكثر صدقًا؛ ففي زمن الضجيج، تبقى الدموع التي لا تُرى هي الأكثر وجعًا.
ربما لن تغني فيروز عن هذا الفقد؛ ربما ستظل أغانيها القديمة تحمل الحكاية بدلًا عنها. لكن عشاقها يعلمون أن كل نغمة ستُسمع بعد اليوم، ستُسمع وقد نقص منها صوت كان يعزف خلفها. زياد لم يكن مجرد موسيقي، كان ظلّها المختلف، ابنها وصديقها ومرآتها، الذي رحل تاركًا وراءه سؤالاً بلا جواب: كيفك إنت؟
كاتبة المقال
الاستاذة/ماريان مكاريوس