“الانتظار مؤلم والنسيان مؤلم أيضا، لكن معرفة أيهما تفعل هو أسوأ أنواع المعاناة.” باولو كويلو
لا شىء يُنسى ، فقط يتسلّل إلى مناطق من العقل ، حتى نستدعيه بإرادتنا ، أو رغمًا عنا ، والعجيب أن ما نريد نسيانه هو ما يظل فوق السطح ، يأبى أن يغوص إلى الأعماق السحيقة ، يراوغنا ، ويتلاعب بنا ، ويبقى إلى جوارنا ، يُخرج لنا لسانه كيدًا ، أما ما لا نريد نسيانه فيتبخّر كالضباب.
بقلم ممدوح دبور
لماذا يريد الإنسان أن ينسى ؟
قد يكون فرارًا من ذكريات مؤلمة ، كفقد عزيز ، حيًا أو ميتًا ، أو لشعورنا بالخجل من تلك الذكريات ، فنحاول جاهدين أن نخفيها ، كمن يحاول أن يطمس آثار جريمة ما ، وقد تداهمنا الرغبة فى النسيان أملًا فى الاستمرار فى العيش دون منغّصات أو ألم قمىء أو جرح لا يندمل ، ونظن أنّنا بالنسيان قد تخطّينا تلك الأمور بنجاح.
لا يستطيع أحد أن يوارى أحداث حياة متواصلة الحلقات ، لا يفصل بين حدث وآخر فيها سوى حدث ثالث . لو كان النسيان يشبه كما يقول البعض طىّ صفحة فى كتاب ، فلا ننسى أن النسيان فعل لا إرادى ، بينما طىّ صفحة فى كتاب يحدث دون أدنى جهد أو تركيز .
لا يمكن أن نقرأ رواية اختفت من نسختها صفحات ، دون أن نصاب بالدهشة أو الحيرة .
يقول ابن سينا : “الوقت يُنسى الألم و يُطفئ الانتقام ، وهو بلسم الغضب ، لأنه يخنق الكراهية ، فيصبح الماضى كأن لم يكن .”
أقرأ المزيد:اشمعني !! اشمعني !؟و ليه ؟ الإجابة كلمة
أعترض – يا صديقى العالم الفذ – فالوقت قد يجعل الألم والرغبة فى الانتقام والكراهية مجرّد ذكريات ، لم تعد تنغّص علينا حياتنا ، ولكنه أبدًا لا يُنسى الإنسان ما حدث ، ولا يستطيع الوقت أن يجعل الماء العكر واللبن المسكوب جديرين بالشرب مرة أخرى .
النسيان خيانة للأوجاع والسقطات القديمة .
كان الشاعر محمود درويش على حق ، حين مازج بين الفرح ونُضرة النسيان ، فما أجمل أن تقنع نفسك بأنّك قد نسيت شيئًا ما ، وأنّك قادر على مواصلة الحياة ، فتشرع فى الاستمتاع بوقتك ، وزيارة من لم تكن تراهم منذ فترة طويلة، والقيام بأعمال لم يكن لديك الوقت لها ، وفى ذهنك أنّك مثل محاربى أسبرطة ، لا يعرفون سوى النصر ، أو الموت ، ثم تداهمك الذكريات الموجعة لحظة تكون فيها بمفردك ، تواجه فيها نفسك ، فتشعر برغبة غير مبرّرة فى استدعاء تلك اللحظات ، مهما كانت مريرة ، وكأنّك تربّت بيدك على كتفك ، وتقول : لا تحزن ، فلم تكن المذنب ، ولم تخسر شيئًا ، لأنّك قد ربحت أغلى ما فى الوجود .. نفسك !
النسيان ليس ربح ، بل إن يحدث تكون الخسارة الكبرى ، لأنّك فقدت مناهج التعليم الحياتية ، لتبدأ من جديد ، وقد تسقط فى نفس الفخاخ ثانية ، وتصبح مثل بطلة الفيلم الأمريكى “خمسون موعد أول” ، والتى فقدت ذاكرتها تمامًا ولم تتذكّر سوى موعدها الأول مع زوجها ، فتقابله كل مرة بنفس الشغف واللهفة ، بينما يكون هو قد فقدهما منذ فترة طويلة .
قد يقول أحدهم : ولكن النسيان يحدث ، بدليل سقوط البعض فى نفس الخطأ مرات ومرات ، أو كما يقوم الصائم أحيانًا بتناول الأطعمة سهوًا ، أو حين ينسى المحبّ محبوبته .
ولكن هذا الفعل الأخير لا يجب أن نصفه بالنسيان ، بل بانطفاء الرغبة .
نعم ، قد يحدث النسيان بالطبع ، وإلّا لما كان هناك فقدان ذاكرة أو زهايمر .
ولكن ما أقوله أن النسيان ليس نعمة دائمًا ، كما يدّعى البعض ، وإنه لا يحدث حين نريد ذلك ، وإنّه قد يصبح سلاحًا ذا حدّين ، فلا يجب أن نأمن له .
يجب أن نجعل من الذكريات وسيلة للتعلّم واكتساب الخبرات ، فليس مهمًا أن ننسى ، بقدر ما هو ضرورى أن نتعامل مع الذكريات ، المؤلمة منها والسعيدة ، على أنها كتب تاريخ ، نقتبس منها ما ينفعنا فى مسيرة الحياة ، ونتجاهل ما قد يؤرّق علينا العيش .
النسيان أنواع ، منه قصير الأمد ومنه طويل الأمد ، ومنه أيضًا المزمن المرضىّ .
قد يكون النسيان عارضًا ، بسبب رغبة قوية داخلنا أن نعبر المرحلة ، دون أن نفقد ما تبقى لنا من أنفسنا بعدها ، ونزهو لفترة ونزدهر ، ويرانا الجميع مختلفين ، مشرقين ، وكأن الماضى قد لملم حاجاته ، وحزمها فى صرّة ، وغادرنا دون رجعة .
هذا النوع من النسيان قد يكون مدمّرًا ، لأنّه يكون كالجرح العميق الذى اكتفينا بوضع ضمادة تخفيه ، ولكنه يظلّ يعبث فى نفوسنا ، فى انتظار اللحظة التى يطلّ فيها بوجهه القبيح علينا ، فى لحظة شجن أو حنين أو ما شابه .
النسيان قصير الأمد كالخنجر المغروس فى الجسد ، لا نستطيع أن نتحملّ وجوده ، ولا نقوى على انتزاعه . يظلّ دون هوادة أو رحمة يمرق بين الحين والحين فى عقولنا كالشهاب ، فنتوارى عنه ونوليه ظهورنا ، بينما هو يتضاحك قائلًا : لا فرار !
ولكى يتحوّل هذا النوع من النسيان إلى النوع طويل الأمد ، علينا أن نجلس أمام أنفسنا ، كما يجلس كل خاطئ أمام أب الاعتراف ، ليسرد عليه خطاياه وذنوبه ، على أمل أن يحظى بالمغفرة والصفح ، وأن ينال الإشارة ببداية جديدة ، وكأنّ الاعتراف قد غسله من خطاياه ، فلم يعد هناك سبب للشعور بالذنب وتأنيب الضمير .
أنت أب اعترافك !
يجب أن تعترف لنفسك بأخطائك ، وألّا تتنكّر لسقطاتك ، بل افتخر بها !
نعم ، افتخر بسقطاتك ، لأنها تجعلك بَشرىّ ، ومن لا يعرف الذنوب ، كيف له أن يميّز الحسنات ؟
نحن مزيج من الخير والشر ، أهورا مازدا وأهرامان ، فيشنو وشيفا ، ست وأوزوريس !
لا يمكن أن نتخلّص من تلك الطبيعة ، ولا يجب أن نفعل ، لأنّ من يعتقد أنّه معصوم فقد سقط فى فخ أفظع وأشد ظلمة من فخ السقوط فى الخطأ ، ولن ينفع النسيان شخصًا مثله ، لأن النسيان يحدث حين نريد الفرار من أنفسنا ، وليس حين ندلّلها ونحيطها بمجد زائف .
أما النوع الثالث فهو قد يكون الميزة الأعظم فى فعل النسيان برمته ، وذلك حين يصبح مرضيًا ، فيصاب الإنسان بنوبة نقاء ذهنىّ وسكينة مع النفس ، يحسده البشر جميعًا عليهما ، وإن كان فى بعض الحالات مميتًا كالزهايمر .
ولكن ، ما الضرر فى ذلك ؟ ألم يقل نجيب محفوظ :
“الحياة فيض من الذكريات تصب فى بحر النسيان . أما الموت فهو الحقيقة الراسخة .”
المزيد أيضا:قراءة في كتاب “المرايا المتجاورة”لجابر عصفور .. تفاصيل مختلفة
أما النسيان الذى يشتهيه الجميع ، فهو نوع مختلف تمامًا عن بقية الأنواع ، وقد اعتاد البشر أن يدعونه بكلمة أخرى ، قد تبدو مختلفة ، وهى الصفح !
الصفح عما حدث لك قد يرفعك إلى منزلة فوقية ، فلا تنسى ما قد حدث فحسب ، بل تصبح الذكريات مجرد لقطات فى فيلم لا تملّ من رؤيته ، ويصغر أمامك أخطاء من حولك ، ويتضاءل مع تلك المنزلة الجديدة ظلم البشر ، وهنا أختلف مع باولو كويلهو الذى يرى أن هناك اختلافًا كبيرًا بين النسيان والصفح ، فهما فى رأيى وجهان لعملة واحدة ، كالقمر ، ذى وجه مضىء ووجه مظلم دائمًا .
حينها ، تصبح كالصقر ، يغادر القمة حين يصعد إليها حيوان آخر ، ليس خوفًا ، ولكن لأنها لم تعد قمة !
والصفح ليس فقط عمن أساؤوا إليك ، بل الصفح بداية عما فعلته أنت ، أو ما لم تفعله حين كان عليك ذلك .
تعلم أن تصفح ، فتصبح الذكريات المؤلمة مجرد خدوش أصابت فارس فى معركة ، لا تستطيع أن تقتله ، ولا يمكن أن تغرس فى نفسه الرغبة فى الانتقام ، وذلك ببساطة لأنّه المنتصر .
حين تصفح عن نفسك وعن أخطائك ترى الحياة بسيطة واضحة كالماء النقى ، فالاكتشاف لا يعنى دائمًا الوصول إلى أرض جديدة ، بل قد يكون مجرد رؤية أشياء قديمة بعيون جديدة .
وحين تصفح عن الآخرين تكون قد صنعت معجزة ، تَحدّث عنها كل الأنبياء ، وطوّبوا كل من يستطيع القيام بها ، وهى الانتصار على طبيعتنا البشرية التى تميل للشرور كالثأر ، وتدعونا دائمًا للانتقام ممن قلّلوا من شأننا ، فصغرت أنفسنا أمام أعيننا .
لا تسمح لنفسك أن تتقمّص دور الناصح ، فالنفس أمّارة بالسوء أحيانًا ، ولكن عليك أن تخاطبها مخاطبة الصديق لصديقه ، ولا تسمح لها برفع الكُلفة بينكما رغم ذلك ، ولا تبيح لها أن تصبّ عليك غضبها ، ولا تتيح لها فرصة الوصاية عليك ، ولا تمنحها حق اللجوء إلى عقلك ، بذريعة أنّها تخاف عليك .
نعم ، هكذا هى النفس ، شخص آخر يسكننا ، ولا يكتفى بذلك ، بل يظلّ يتذمّر ويشكو ، ويطالب بأمور قد لا يستطيع الجسد القيام بها ، وقد تتمادى فى طلباتها ، فتصبح فرمانات تُغرق القلب نفسه فى الهموم .
يجب أن تروّض نفسك ، وتعلّمها أن تصفح عما مضى ، ولا تخجل أمامها من البوح بأخطائك ، بل وتحدّث عنها بجرأة ، كما لو كانت نياشين انتصار تضعها فوق صدرك ، لأنّك ما تزال على قيد الحياة ، تتعاطاها وتتحمّل ما فيها من شر وظلم .
ألا ترى يا صديقى أن فى صرخة الطاهر بن جلون صدًى لما يجيش فى صدورنا ، فقد قال : آه من النسيان ! النسيان اللعين ! العدو الذى يسرق كل شىء، خاصة ذكرياتى.. فبأى حق يفعل هذا؟
نعم ، بأى حق يسرق النسيان ماضينا ؟ من يستطيع أن يعيش بلا ماضى ؟
عليك أن تواجه ذكرياتك بشجاعة ، مهما كانت مريرة ، فلن يمنحك النسيان السكينة ، وعليك أن تقتنيها بألمك وأرقك ، وبعدها قد تفوز بها للأبد ، فهى المفتاح السحرى للبقاء على قيد الحياة وعدم الرغبة فى مغادرتها باكرًا ، فالذاكرة –كما تقول أحلام مستغانمى – ، مع بعض التحفّظ من جانبى ، أحسن خادم للعقل ، والنسيان أحسن خادم للقلب .
الذكريات كالعطور ، لا تبرح ملابسك إلّا بعد أن تغسلها جيدًا ، أو بعد أن تستبدله بعطور أخرى ، وقد تبقى لفترة طويلة ، وذلك يتوقّف بالطبع على جودة العطر .
أغلى عطور الذاكرة هى الأفراح ، وأبخسها ثمنًا هى الأحزان ، ورغم ذلك تبقى الثانية على حساب الأولى دائمًا ، وكأنّ قانون البقاء للأصلح قد تعطّل فى تلك الحالة .
دائمًا ما يبقى شىء من عبق الماضى عالقًا بأنفسنا كالجراثيم ، مهما حاولت أن تزيلها تظل تنخر فى نفسك ، وقد لا تستطيع رؤيتها بالعين المجرّدة ، ولكنها هناك ، تتغذّى على عقلك وقلبك ، فلا تجد مفرًا من الاستسلام والتعايش ، والصفح هو المضاد الحيوى الوحيد الذى يرمّم ما تحدثه هذه الجراثيم فى جسدك .
قد تتراكم الأحلام المزعجة ، و نعجز عن طردها ، لأنها لا تنفكّ تطاردنا ، فيكون الصفح ، توأم النسيان ، هو الوحيد القادر على تبديد هذه الأحلام عند اليقظة .
فالإنسان أخو النسيان – كما يقول المثل العربى – وهو أيضًا الوحيد القادر على مساندة النفس فى رحلة الحياة المليئة بالمفاجآت ، ولولا ميزة النسيان ، لما بدأنا حياة جديدة فى كل يوم ، كما يقول فولتير ، الفيلسوف الفرنسى .
يقول واسينى الأعرج : إن أطرف كذبتين وجدهما الإنسان لمقاومة ظلمة الموت والقبر هما العزاء والنسيان ، بينما هما وجهان لعملة واحدة مرتسمة في دمه ، وهل يقدر الإنسان أن ينسى دمه؟!
الصفح ،يا عزيزى ، عكّاز فى مسيرة طويلة فوق قدمين منكسرتين من فرط الأوجاع والآلام ، فلا تتخلّى عنه ، وهنا تحضرنى كلمات خورخى لويس بورخيس ، الشاعر الكفيف الذى ظلمته الحياة ، حين قال :
” لا أفكرُ فى الصفح ولا فى الانتقام ، فالنسيان هو الصفح الوحيد ، وهو الانتقام الوحيد.”