خريطة الذاكرة الوطنية .. رؤية ثقافية تتجاوز الاحتفال، المتاحف كمساحات حية للتعلم والهوية، ولأن لكل قاعدة استثناء، ورغم أنني لم أعتد الكتابة عن أي مسؤول وهو في موقع المسؤولية، أجدني هنا مضطرًا للتوقف أمام هذه المبادرة المهمة وبطلها الأول المبدع أمير نبيه، وكيل أول وزارة الثقافة والمشرف على المبادرة، الذي عرفته منذ ما يقرب من ربع قرن، حين كان موظفًا بقطاع العلاقات الثقافية الخارجية، ثم تدرج في مواقع متعددة وترك بصمة واضحة في كل منها. ولن أبالغ إذا قلت إن له من اسمه نصيبًا؛ فهو إنسان «أمير» الخلق، ومسؤول «نبيه» جمع بين الحسنيين.
بقلم / إيمان سامي عباس
ووفقًا لما أكده وزير الثقافة، انطلقت المبادرة من فكرة بسيطة وعميقة في آن واحد: الاحتفاء بالمتحف المصري الكبير لا يتعارض مع تسليط الضوء على بقية المتاحف، بل يكمله. فبين متحف قومي يوثق لحظة تاريخية، وآخر فني يرصد تطور الإبداع، وثالث متخصص يحفظ تراثًا شعبيًا أو أدبيًا، تتشكل صورة مصر المتنوعة التي لا ينفصل فيها الفن عن السياسة، ولا التاريخ عن الحياة اليومية.
وضعت المبادرة أهدافًا واضحة، في مقدمتها تعزيز الوعي بالهوية المصرية، وإعادة اكتشاف المتاحف الفنية والقومية والمتخصصة، وجذب شرائح جديدة من الزوار، خاصة الأطفال والشباب، إلى جانب كسر الحواجز النفسية بين الجمهور والمتاحف عبر دمج الثقافة في الفضاءات العامة، لتصبح المعرفة أقرب وأسهل وصولًا.
من القاعات المغلقة إلى الفضاء العام.

المتحف يعود إلى الحياةاليومية
انعكست المبادرة سريعًا على أرض الواقع، حيث شهدت المتاحف التابعة لوزارة الثقافة حراكًا غير مسبوق، تمثل في توافد أعداد كبيرة من رحلات المدارس والمعاهد والكليات، خاصة مع اقتراب نهاية المبادرة وتزامنها مع موسم الامتحانات. وبدا واضحًا أن المتحف عاد إلى خريطة الأنشطة التعليمية بوصفه امتدادًا للفصل الدراسي، ومكانًا للتعلم بالمشاهدة والتجربة لا بالحفظ والتلقين.
شاركت متاحف عدة بوصفها خزائن للذاكرة الوطنية ومنارات للمعرفة، من بينها متحف دار الكتب والوثائق القومية بباب الخلق، الذي يضم كنوزًا نادرة من المخطوطات والوثائق والمصاحف والخرائط والبرديات، موثقًا تاريخ الدولة المصرية عبر قرون. كما برزت متاحف السيرة والإبداع، وفي مقدمتها متحف طه حسين، ومتحف أحمد شوقي، إلى جانب متحف فن الزجاج والنحت والعجائن المصرية، الذي يجسد تجربة إنسانية وفنية فريدة.
وامتدت المبادرة إلى متاحف الذاكرة الوطنية والنضال، مثل متحف مصطفى كامل، ومتحف عبد الرحمن الأبنودي بقرية أبنود، ومتحف المنصورة القومي (دار ابن لقمان)، ومتحف النصر للفن الحديث ببورسعيد، ومتحف دنشواي، فضلًا عن المتاحف الفنية الكبرى كمتحف الخزف الإسلامي، ومتحف الفن المصري الحديث.
وكان للإسكندرية حضورها اللافت من خلال متحف ومكتبة الفنون الجميلة، ومركز محمود سعيد للمتاحف، بينما شاركت متاحف مختار، ومحمد محمود خليل وحرمه، ومتحف الفنون الشعبية بأكاديمية الفنون، ومتاحف أم كلثوم ونجيب محفوظ، ومتحف المسرح والموسيقى، وصولًا إلى متحفي محمد عبد الوهاب والأوبرا المصرية.
لم تقتصر المبادرة على الزيارات، بل صاحبتها فعاليات ثقافية واحتفاليات بمناسبات متنوعة، ورسائل تؤكد أن المتحف فضاء للتفاعل والحوار، لا مجرد مكان للفرجة. كما خرجت المبادرة إلى الفضاء العام عبر مترو الأنفاق والقطار السريع، في تعاون لافت بين وزارتي الثقافة والنقل، حيث تحولت عربات المترو إلى منصات ثقافية مفتوحة، تعرض مواد تعريفية وأعمالًا فنية ورسائل تشجع على زيارة المتاحف واكتشاف كنوزها.
هذه ليست مبادرة عابرة، بل خطوة جادة على طريق طويل لإعادة بناء علاقة المجتمع بالثقافة، والتأكيد على أن عامًا قد ينتهي، لكن حلم المتحف المصري – بوصفه بيتًا للذاكرة والوعي – يظل متجددًا لا ينطفئ.

