الرئيسية » هايدى والخمسة جنيه .. حينما تتحول البساطة لأسطورة بعيدا عن صناعة البطل الزائف

هايدى والخمسة جنيه .. حينما تتحول البساطة لأسطورة بعيدا عن صناعة البطل الزائف

by باهر رجب
0 comments

كتبت / ماريان مكاريوس

في عام ١٩٧٠ تم عرض فيلم (سفاح النساء) لاستاذ الكوميديا فؤاد المهندس و الذي كان سابقة عصره في تناول قصة الترند و الشهرة و الغني السريع من مجرد استغلال حدث أو حادث عابر .

واليوم و بعد أكثر من خمسون عاما نجد أن التريندات تحكمنا و تحكم المجتمع بشكل شبه يومي فلم تكن الطفلة الصغيرة(هايدي) التي دخلت إلى البقالة تحمل في جيبها ورقة مهترئة من فئة الخمسة جنيها و التي اختارت كيسًا من الشيبسي، ثم لم تلبث أن تراجعت وأعطت المبلغ لرجل محتاج.

مشهد بسيط، طبيعي، وربما يمرّ أمام أعيننا عشرات المرات دون أن نتوقف عنده. لكن هذه المرة، توقف المجتمع طويلًا، وأبى أن يترك الحدث في حجمه الطبيعي. هكذا وُلد “ترند بنت الخمسة جنيه”، وتحولت لحظة عابرة إلى قصة كبرى تلوكها الألسنة وتعيد إنتاجها الشاشات والمواقع.

 

ما حدث لم يكن احتفاءً بالطفلة بقدر ما كان انعكاسًا لطبيعة مجتمع يبحث عن “بطل مؤقت”، يرفع اسمه عاليًا ثم يطويه سريعًا. والمفارقة أن هذا البحث المحموم عن البطولة جاء على حساب قيمة الفعل نفسه، إذ غرقنا في المبالغات حتى اختفى جوهر الموقف وراء ستار من العناوين الطنانة.

من العفوية إلى التضخيم وصناعة البطل الزائف

طفلة تشارك بما لديها من نقود زهيدة، فعل إنساني جميل لكنه طبيعي. الأطفال يميلون بالفطرة إلى المشاركة والتعاطف، خصوصًا إذا نشأوا في بيئة تحفّزهم على العطاء.

لكن المجتمع رفض أن يرى في الموقف مجرد فعل تلقائي، بل قرأه كأنه ملحمة بطولية. الإعلام صوّر المشهد وكأنه “درس للأمة”، وصفحات التواصل تداولته باعتباره “رسالة إنسانية للعالم”، بل وصلت بعض التعليقات إلى حد القول إن الطفلة “أعادت إحياء الضمير المصري”.

أي مبالغة تلك التي تحوّل بساطة العطاء إلى أيقونة وطنية؟ إننا أمام خلل في منظومة القيم، حيث تُرفع المواقف العابرة إلى مقام الأساطير، بينما تتوارى القضايا الجوهرية التي تستحق أن تكون في صدارة الاهتمام.

الإعلام في عصر السرعة يبحث دائمًا عن قصة مؤثرة، بغض النظر عن عمقها.

صورة الطفلة بخمسة جنيهات كانت “قابلة للتسويق”: عفوية، براءة، لقطة إنسانية جذابة. فاندفعت الفضائيات والمواقع لتضخيمها، وكأننا أمام حدث تاريخي.

هذا ليس جديدًا. رأينا من قبل “طفل التوكتوك” الذي أصبح نجمًا للحظة قبل أن يختفي من المشهد. ورأينا قصصًا مشابهة تتكرر: بائع مناديل، أو طفل بائع فوانيس، أو مسن يواصل العمل رغم شيخوخته. كلها مشاهد تستغلها الكاميرات لصناعة بطل مؤقت، بينما الواقع يظل كما هو: فقر لم يُحلّ، ظروف اجتماعية لم تتغير، وقضايا كبرى تُركت جانبًا.

بهذا المعنى، فإن “بنت الخمسة جنيه” ليست مجرد طفلة، بل مرآة لخلل إعلامي واجتماعي يلهث وراء العناوين العاطفية ويغفل جوهر القضايا.

 

حين يصبح التضخيم استهلاكا للبراءة

المشكلة لا تقف عند حدود المبالغة، بل تمتد إلى استغلال البراءة نفسها. الطفلة التي تصرفت بتلقائية، وجدت نفسها فجأة موضوعًا لعدسات الكاميرات. صورها انتشرت، قصتها أصبحت ملكًا للناس، وربما لم تُسأل أصلًا: هل ترغبين في أن تكوني مادة إعلامية؟

بهذا الشكل، نحمل الأطفال ما لا طاقة لهم به. نحولهم من فاعلين أبرياء إلى رموز مثقلة بالتوقعات. والأسوأ أن المجتمع يستهلكهم لحظة ثم يتخلى عنهم فور ظهور “ترند” جديد. إنها دائرة استغلال عاطفي لا تتوقف، ضحيتها في النهاية إنسان صغير لم يطلب سوى أن يعيش طفولته.

حين يملأ مشهد بسيط فضاء الإعلام، نتساءل:

1- ماذا عن القضايا الكبرى؟

2- ماذا عن الفقر نفسه الذي جعل الرجل محتاجا إلى مساعدة طفلة؟

3- ماذا عن سياسات العدالة الاجتماعية؟

4- ماذا عن التعليم والصحة والحقوق الأساسية؟

المجتمع الذي يرفع طفلة إلى مقام “المخلّص” لمجرد أنها تنازلت عن كيس شيبسي، هو مجتمع يهرب من مواجهة جذور المشكلة. بدلًا من أن نسائل أنفسنا: لماذا يحتاج رجل إلى صدقة طفلة؟ نكتفي بالبكاء على عظمة الموقف. بهذا الشكل يصبح الاحتفاء غطاءً يخفي فشلًا أعمق، ويجعلنا نتعايش مع واقع مختل دون أن نحاول تغييره.

 

حاجة المجتمع إلى الأبطال اللحظيين

جزء من تفسير الظاهرة يكمن في حاجة الناس إلى الأمل. في ظل أزمات اقتصادية وضغوط معيشية، يبحث المجتمع عن قصة مضيئة، حتى لو كانت واهية. لذلك يسهل أن تتحول أي لحظة إنسانية إلى ترند.

لكن خطورة الأمر أن هذه “القصص المضيئة” تظل سطحية. لا تُبنى عليها حلول، ولا تُترجم إلى سياسات، بل تبقى مجرد مادة للاستهلاك العاطفي. نحن نصنع أبطالًا لحظيين بدلًا من أن نصنع واقعًا أفضل.

ما يستحق الإدانة هنا ليس فعل الطفلة، بل فعل المجتمع. الطفلة إنسانة بريئة لم تفعل سوى ما تمليه عليها فطرتها. لكن المجتمع هو الذي ضخّم، هو الذي حول بساطة الفعل إلى أسطورة، هو الذي استغل القصة لتمرير عناوين فارغة، هو الذي هرب من مواجهة الأسئلة الكبرى.

الغريب ان يقوم المجلس القومي للطفولة و الأمومة بمنحها لقب سفيرة للرحمة! و كأن الأقارب أصبحت جاهزة حتى للافعال البسيطة.

“بنت الخمسة جنيه” ستظل طفلة فعلت ما يمليه عليها ضميرها، لكن المجتمع سيظل مدانًا لأنه لم يقرأ الموقف كما يجب. بدلًا من أن يرى فيه دعوة للعمل الجماعي ومواجهة أسباب الفقر، اكتفى بتحويله إلى ترند عاطفي.

إدانة المجتمع هنا واجبة، ليس لأنه احتفى بالخير، بل لأنه بالغ في الاحتفاء حتى أضاع الخير ذاته. إن قيمنا لن تُبنى بالتصفيق لمواقف عابرة، بل بعمل جاد يعالج جذور المشكلات.

أما أن نُحوّل كل فعل بسيط إلى أسطورة، فذلك يعني أننا اخترنا الطريق الأسهل: طريق التجميل اللحظي بدلًا من التغيير الحقيقي.

كاتبة المقال

الأستاذة /ماريان مكاريوس

You may also like

Leave a Comment

Are you sure want to unlock this post?
Unlock left : 0
Are you sure want to cancel subscription?
-
00:00
00:00
Update Required Flash plugin
-
00:00
00:00