الرئيسية » التلفزيون المصري بين التأسيس و التحديث… ستة عقود من البث و الريادة

التلفزيون المصري بين التأسيس و التحديث… ستة عقود من البث و الريادة

by محمد عجاج زيدان
0 comments

التلفزيون المصري بين التأسيس و التحديث… ستة عقود من البث و الريادة

بقلم /ماريان مكاريوس

في 21 يوليو 1960، انطلق أول بث تلفزيوني رسمي من مبنى ماسبيرو في قلب القاهرة، ليعلن عن ميلاد تجربة جديدة في مصر والعالم العربي. لم يكن هذا البث مجرد نقلة تقنية، بل كان بداية مشروع وطني واسع سعى إلى ترسيخ الثقافة، وبث الوعي، وتشكيل الهوية السياسية والاجتماعية عبر وسيلة جديدة فرضت نفسها بقوة في اللحظة الافتتاحية.

البدايات: الحلم المؤجل

رغم أن أول تجربة إرسال تلفزيوني شهدتها مصر كانت في عام 1951 بتنظيم شركة فرنسية بمناسبة زواج الملك فاروق، فإن الظروف السياسية، ومنها العدوان الثلاثي عام 1956، أخّرت إنشاء تلفزيون وطني دائم.


في عام 1954، طرح صلاح سالم، وزير الإرشاد القومي، مشروع إنشاء محطة تلفزيونية على الرئيس جمال عبد الناصر، وهو ما لاقى قبولاً سياسيًا لكنه احتاج سنوات من التخطيط والتنفيذ.

و كانت الانطلاقة الفعلية التي جاءت في أواخر 1959 بعد توقيع عقد مع هيئة الإذاعة الأمريكية RCA، التي تولت الإشراف على تجهيز المعدات وتدريب البعثات المصرية الموفدة إلى نيويورك. وبهذا، تهيأت الأرض لإطلاق البث في الذكرى الثامنة لثورة 23 يوليو.

اللحظة الافتتاحية: 21 يوليو 1960

في تمام الساعة السابعة مساءً، بدأ أول إرسال تلفزيوني رسمي في مصر بتلاوة للقرآن الكريم بصوت الشيخ محمد صديق المنشاوي، ثم ظهر الإذاعي صلاح زكي ليعلن ميلاد “التلفزيون العربي من القاهرة”. تنوعت الفقرات بين افتتاح مجلس الأمة، وخطاب الرئيس عبد الناصر، وأغنية “وطني الأكبر”، ونشرة الأخبار، لتُختتم السهرة مجددًا بالقرآن الكريم.

كانت هذه الساعات الست بمثابة نافذة جديدة على العالم، ومجالًا تعبيريًا مختلفًا عن الإذاعة والصحافة المكتوبة. شاركت المذيعة همت مصطفى في تقديم فواصل الربط بين البرامج، لتكون أول مذيعة تظهر على الشاشة المصرية.

النمو المؤسسي والتنظيمي

مع تزايد أهمية الإعلام، أصدر الرئيس السادات عام 1970 مرسومًا بإنشاء “اتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري”، مقسمًا إلى أربعة قطاعات: الإذاعة، التلفزيون، التمويل، والهندسة، يخضع كلٌ منها لرئاسة وزير الإعلام مباشرة. هذا التنظيم المؤسسي منح التلفزيون مزيدًا من الاستقلال في الإدارة والتطوير.

بعد نصر أكتوبر 1973، دخل التلفزيون المصري مرحلة جديدة تمثلت في التحول إلى نظام البث الملون (SECAM)، ثم انتقل إلى نظام PAL في عام 1992، ما ساعد على تحسين جودة الصورة وتوسيع نطاق التغطية.

التوسع الجغرافي والإقليمي

لم يكن البث التلفزيوني مقتصرًا على القاهرة لفترة طويلة. ففي عام 1988، أُطلقت القناة الثالثة لتغطي إقليم القاهرة الكبرى، تلاها إطلاق القناة الرابعة لمدن القناة (بورسعيد، السويس، الإسماعيلية)، ثم القناة الخامسة لمنطقة الدلتا والإسكندرية، والقنوات السادسة والسابعة والثامنة لتغطية وسط وشمال وجنوب الصعيد على التوالي. شكّل هذا التوسع الإقليمي امتدادًا للبنية الإعلامية الحكومية، وفتح المجال لعرض قضايا المحافظات ومشكلاتها وأصواتها المحلية.

التحول الفضائي والتخصص

في 12 ديسمبر 1990، انطلقت القناة الفضائية المصرية، لتكون أول قناة عربية حكومية تبث عبر الأقمار الصناعية، تلاها إطلاق قناة النيل الدولية عام 1993. ثم جاءت طفرة القنوات المتخصصة في منتصف التسعينيات، وبدأت بقناة النيل للدراما عام 1996، أعقبها قنوات موجهة للأسرة، الرياضة، الأخبار، الوثائقيات، والمنوعات، بالإضافة إلى 7 قنوات تعليمية، مما شكل منظومة تلفزيونية ضخمة لكنها ظلت، في معظمها، تحت عباءة الدولة.

تأثير التلفزيون المصري في تشكيل الوعي

منذ لحظته الأولى، لم يكن التلفزيون المصري مجرد ناقل للخبر، بل صانع للوعي. لعب دورًا مهمًا في توحيد المشاعر الوطنية، خاصة في المناسبات القومية، مثل نكسة 1967، ونصر 1973، واتفاقيات السلام، وحروب الخليج، وثورات الداخل. عبر الشاشة الصغيرة تعلّم المصريون قراءة خطاب الدولة، وتفاعلوا مع خطب عبد الناصر، ومبادرات السادات، وأحاديث مبارك الشهرية. في ذات الوقت، أسهم التلفزيون في خلق ذاكرة جماعية عبر الأعمال الدرامية، وسهرات المنوعات، والبرامج الثقافية مثل “العلم والإيمان” و”حديث الروح” و”مصر النهاردة”.

التلفزيون المصري أمام تحديات العصر الرقمي

مع دخول الألفية الجديدة، بدأ التلفزيون المصري يواجه تحديات متزايدة أمام الفضائيات الخاصة، ثم منصات التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية. برزت الحاجة إلى تحديث البنية التقنية، وتطوير لغة الخطاب الإعلامي، وإعادة هيكلة المحتوى ليناسب الأجيال الجديدة، وهو ما أطلقت من أجله الدولة مشروعات لتحديث ماسبيرو منذ 2014، لكنها لا تزال تسير بخطى بطيئة.

ورغم كل التحديات، ما زال التلفزيون المصري يحتفظ برمزيته كواحد من أبرز أدوات الدولة الثقافية والإعلامية، ومنصة كانت شاهدة على كل التحولات الكبرى في مصر خلال أكثر من ستة عقود.

التلفزيون المصري ليس فقط مؤسسة إعلامية؛ بل هو جزء من ذاكرة الدولة والمجتمع، ومن معمار الهوية المصرية الحديثة. منذ أول لحظة بث وحتى اليوم، ظل “ماسبيرو” شاهدًا وفاعلًا في صناعة التاريخ، ومسؤولًا عن صياغة صورة مصر في الداخل والخارج. وبينما تتسارع خطوات الإعلام الرقمي، فإن الحفاظ على هذا الكيان العريق وتطويره يظل واجبًا وطنيًا، يحفظ الماضي ويواكب المستقبل.
بقلم الاستاذة/

ماريان مكاريوس

You may also like

Leave a Comment

Are you sure want to unlock this post?
Unlock left : 0
Are you sure want to cancel subscription?
-
00:00
00:00
Update Required Flash plugin
-
00:00
00:00