نور الشريف أسطورة الفن التي لم تختزل في لقب واحد
بقلم /ماريان مكاريوس
في الحادي عشر من أغسطس، تتجدد الذكرى ويعود اسم الفنان الكبير نور الشريف ليتردد في قلوب عشاقه، لا كمجرد ممثل رحل، بل كرمز فني ترك أثرًا لا يُمحى. كان واحدًا من أولئك الذين لا يكتفون بالتمثيل كحرفة، بل يجعلونه رسالة، يحفرون من خلاله في ذاكرة الناس، ويتركون بصمة تتجاوز حدود الشاشة.
المولد والنشأه والبدايات
ولد نور الشريف عام 1946 في حي الخليفة بالقاهرة، وسط بيئة شعبية تحمل دفء العلاقات الإنسانية وقسوة الواقع في آن واحد. اسمه الحقيقي محمد جابر محمد عبد الله، وبدأت بوادر موهبته تظهر منذ سنواته الأولى في المدرسة، حين انضم إلى فريق التمثيل المدرسي، وهناك اكتشف أن الوقوف أمام الجمهور يمنحه إحساسًا فريدًا بالحرية والتعبير.
لكن موهبته لم تكن فنية فقط؛ فقد كان أيضًا لاعب كرة قدم في فريق أشبال نادي الزمالك موسم 1961، وتدرّب مع نجوم كبار مثل حمادة إمام وطه بصري ونبيل نصير وعلي محسن. وبرغم أنه كان يملك مستقبلًا واعدًا في الملاعب، إلا أن قلبه كان مع الخشبة وعدسات الكاميرا. وقد روى في تسجيل صوتي نادر من الثمانينيات أنه لو ظل لاعبًا في الزمالك، “عُمري كان هايبقى قصير”، في إشارة إلى أن حياته الحقيقية كانت ستُختصر لو ابتعد عن الفن.
طريق الأحتراف بدأ من هنا
بدأت خطواته الاحترافية بعد التحاقه بالمعهد العالي للفنون المسرحية، حيث لفت أنظار المخرجين بأدائه المتميز وحضوره القوي. وسرعان ما شق طريقه إلى السينما من خلال أدوار صغيرة، قبل أن يسطع نجمه في السبعينيات، مقدّمًا أعمالًا أصبحت علامات فارقة.
في السينما، قدّم نور الشريف باقة من الأفلام التي لا تزال تُدرس، منها: الحاجز، بئر الحرمان، الأبرياء، زوجتي والكلب، سواق الأتوبيس، حدوتة مصرية، ليلة ساخنة، الشيطان يعظ، حبيبي دائمًا، الكرنك، أهل القمة، وزمن حاتم زهران. هذه الأفلام لم تكن مجرد أعمال تجارية، بل محطات نقدية وفنية عبر فيها عن قضايا المجتمع المصري وتناقضاته.
أما في الدراما التلفزيونية، فكان حضوره طاغيًا. تألق في مسلسلات شكلت جزءًا من ذاكرة المشاهد المصري والعربي، مثل: القاهرة والناس، مارد الجبل، أديب، أرزاق، الثعلب، عمر بن عبد العزيز، ولن أعيش في جلباب أبي الذي صار أيقونة رمضانية. كما قدّم هارون الرشيد، الرجل الآخر، عائلة الحاج متولي، الحرافيش، العطار والسبع بنات، حضرة المتهم أبي، الدالي، الرحايا حجر القلوب، وكان آخر أعماله خلف الله.
لم يكن نور الشريف مجرد ممثل يختار أدواره بذكاء، بل كان باحثًا دائمًا عن النصوص الجادة. كان يعرف أن الفن مسؤولية، وأن ما يُقدَّم على الشاشة يمكن أن يغيّر وعي الناس أو يرسّخه. ولهذا، لم يخش تجسيد شخصيات مركبة، ولا الدخول في أدوار تحمل رسائل سياسية أو اجتماعية، حتى لو أثارت الجدل.
أجمل قصة حب والأيام الأخيرة
على الصعيد الشخصي، جمعت نور الشريف قصة حب طويلة بالفنانة بوسي، بدأت في أوائل السبعينيات، وتوّجت بالزواج عام 1972. دام زواجهما قرابة أربعة عقود، وأنجبا ابنتين هما سارة ومي. ورغم انفصالهما عام 2006، فإن علاقتهما بقيت ودية، حتى عاد دفء العشرة ليلتئم شملهما في سنواته الأخيرة. وقد جمعهما في السينما عدد من الأعمال المشتركة، عكست انسجامهما الفني والشخصي.
الأيام الأخيرة في حياة نور الشريف كانت الأصعب، كما روت بوسي في أحد اللقاءات. فقد أُصيب بسرطان الرئة، لكن أسرته أخفت عنه حقيقة مرضه، وأخبرته أنه التهاب في الرئة يمكن علاجه. كان قلبه معلقًا بالأمل، لكنه ظل يعاني في صمت حتى غيّبه الموت في 11 أغسطس 2015.
برحيل نور الشريف، فقدت الساحة الفنية أحد أركانها الكبار. لم يكن مجرد نجم، بل مدرسة في الأداء والالتزام.
علّم أجيالًا من الممثلين أن الفن ليس شهرة أو مالًا فقط، بل رحلة بحث دائم عن المعنى. ترك وراءه مكتبة من الأعمال التي يمكن أن يشاهدها المشاهد اليوم، بعد سنوات من إنتاجها، فيجدها ما زالت نابضة بالحياة.
إن إرث نور الشريف الفني يشبه لوحة فسيفساء كبيرة، كل عمل فيها قطعة تكمل الأخرى، لتكوّن صورة فنان استثنائي عاش للفن وبالفن. وفي ذكراه، لا يسع جمهوره سوى أن يتذكر ابتسامته، صوته المميز، وأداءه الذي جعل من كل شخصية يجسدها واقعًا ملموسًا.
ربما رحل الجسد، لكن الفنان الحقيقي يظل حيًا ما بقيت أعماله في وجدان الناس. ونور الشريف، بلا شك، واحد من أولئك الذين سيظل اسمهم محفورًا في ذاكرة الفن المصري والعربي، علامة على زمن ذهبي لن يتكرر.
كاتبة المقال
الاستاذة/ماريان مكاريوس