عملية النصيرات :الحفرة الملئية بالجمر التي التفت حول الكيان المأزوم
عملية النصيرات .. تبنى المجتمعات على أسس ثابتة منها الوحدة و العقد الاجتماعي و السهولة في التبادل التجاري و التعيين الوظيفي لتسهيل عمل و فعل الأفراد الحيوي داخل المجتمع لنموه و حركته بشكل متغير ديناميكة ، يهدف في نهاية الأمر لتشكله بصفته ثقل حضاري اجتماعي .
مصطفى نصار
و إذ أردنا تطبيق المعايير السابقة على المجتمع الصهيوني ،فسيكون أمامنا مجتمع مشرذم مفكك ، لا يتمتع بوحدة عضوية أو وحدة عرقية على الأقل، و محكوم بالعديد من الخرافات العميقة و الغائرة مثل شعب الله المختار و انتظار المسيح و بخلافه من الخرافات التي يصدقها الأفراد في هذا المجتمع اللقيط حتى و لو كانوا ملحدين و لا يؤمنون بوجود الله من الأساس .
و عطفًا على ذلك ، يؤكد عالم الاجتماع النمساوي الإسرائيلي المناهض للصهيونية باروخ كيميرليغ في كتابه المجتمع الإسرائيلي أن الشتات و التكون الفريد من نوعه للمجتمع جعله يرتكز على أجراف هاوية ، فالمجتمعات القائمة على المادة و المال و الغرور الذاتي و استحقار الآخرين لن تدوم طويلًا و إن دامت فأفراده لن ينتمون للمجتمع عند أول أزمة حقيقة تهدد بوجوده و تظهر معدنه الأصيل سواء حسن أم سيء . نتيجة لما سبق ، علم باروخ كيميرليخ وضع شرط جوهري ارتبط بظهور الأزمة كما فعل عالم النفس فيكتور فرانكل حينما أكد على وجود المعنى من المعاناة و الضيق ، فما يملك الغاية و المعنى يبني مجتمعًا صلبًا القوام متعدل التصورات .
فإذا جاء أحدهم مثلًا لمعايرة المجتمع بأصله الشتاتي من كافة أنحاء الأرض ،فسيحدث هزة و شرخ في جدار المجتمع المتهرأ أساسًا ، و هذا ما فعله الممثل الكوميدي أسي كوهين حينما أكد أن الحل الوحيد في المجتمع قيام الحرب الأهلية لانتصار الأقوى و الأكثر استحقاقًا . و من البديهي هنا أن لحظة أسي هذا لحظة تعبر عن مجتمع قام بالأساس على العنصرية لأفراد آخرين من المجتمع كيهود الفلاشا و السفادريم و الإبادة الجماعية للفلسطنيين . فتتحقق هنا نبوءة السقوط الحر للمجتمعات القاتمة و الحقيرة القائمة على أسس معوجة و خرافية غير قابلة للتحقيق من الأصل . باختصار شديد ، لا تصلح المجتمعات الاستبدادية و العنصرية للاستمرار بشكل طبيعي و منطقي حتى لو انتظمت حركة العمل و البيع و الشراء .
و لعل ما يشهده الاحتلال من انقسامات من أول المجتمع لغاية القادة العسكرين دليل تطبيقي على مدى ما يشهده من فردانية المجتمع التي تطغى عليها بالفعل رغبة الفرد المحمومة في تحقيق غايته الشخصية و أهدافه . و عند التفسير السياسي للفردانية ، من المنطقي للغاية تفسير تعاون أوربا و أمريكا المحموم لإلقاء الصهاينة في فلسطين و دعمها المطلق لقيام الكيان فضلًا عن الأسلحة و المساعدات العسكرية .
الهشاشة الممتدة : سقوط ورقة التوت الأخيرة عن الكيان
يفترض الكاتب و المفكر الإسرائيلي ذائع الصيت أحاد هحام أن المجتمع الصهيوني ليس له قوة غير قوة الحديد و النار ، و المجتمع الذي لا يملك لنفسه أساس أخلاقي يقوم عليه يذبل و يموت . و من هنا ، اعتبرت قوة الاحتلال الإسرائيلي العسكري إحدى عناصر خواره و ضعفه ، بل و انهياره المقبل يعتمد على ذلك .
و ليس هناك دليل أقوى من زيادة العنف و وتيرة قتل النساء و الأطفال في تلك الحرب بما يفوق الحروب السابقة في ٢٠٠٥و ٢٠٠٦ و ٢٠٠٩ و ٢٠١٢ و ٢٠١٤ و ٢٠٢١ و ٢٠٢٣ ، فتلك الحروب شهدت تخبطًا و هشاشة أخذت في التصاعد بما ينتاسب مع شدة وحشية الكيان . فالوحشية و القسوة عمليًا ضعف و شفا على انهيار أي مستمعر كما ذكر ول ديورانت في الموسوعة الضخمة قصة الحضارة.
و افترض الباحث الأمريكي جون ألترمان في مقال على المركز الأمريكي الاستراتيجي في يوم الثلاثاء ١٠ أكتوبر ٢٠٢٣ أن إسرائيل ستهزم بسبب اعتماد حماس على التكاتف و التعاون بظهير شعبي ضدها . على الرغم من أن تفسير ألترمان اعتمد بالأصل على الرواية الإسرائيلية في التحليل ، فقد يوفر أهيمة الصورة و المجتمع العاكس لها في الحرب الحالية .
فقد أثبتت هذه الصورة ماهية الحروب التحررية بصفتها مختلفة بشكل جذري عن الحروب المبنية على المصالح و الأهداف و التحالفات الإستراتيجة . فمع الافتراض الجدلي أن النكبة عام ١٩٤٨ م حرب تحررية للكيان المأزوم ، فإن شروط الحرب التحررية تحققت بشكل متكامل في التصور الحربي في الحرب الإبادية على غزة من مجتمع متماسك و قيادة و حنكة و دهاء استراتيجي بإخفاء الأسرار ،لحين جاءت مذبحة النصيرات في العاشر من الشهر الجاري .
النصيرات و تغير المعادلة:هزيمة أريد لها أن تكون نصرًا
غيرت عملية النصيرات الكثير حيال المجتمع الإسرائيلي بالأصل عن اختفاء ما تبقى منه من صلابة و تماسك اجتماعي بتقين الفرد الصهيوني العادي أن قياداته تخدعه إما عبر إلقائه في حرب قد تفقده حياته ، أو تعوقها للأبد بالإصابة بعاهة مستدامة .
و في هذا السياق ، تسقط ورقة التوت الأخيرة للكيان بانهيار الخرافات التوراتية و رجوع اليهودي لدوره الأصلي في الكون بتمركزه حول الفردوس الأرضي و بغضه العام للموت . ينبع هذا البغض و الكره للموت من ضبابية و غموض صورة الحياة ما بعد الموت لديه ، أو بتعبير المسيري في موسوعته اليهود و اليهودية و الصهيونية الصورة للحياة بعد الموت لدى اليهودي غامضة .
و تلك خدمة عظيمة و جليلة الشأن
للمقاومة إذ يمكن استغلالها في خلق الارتباك اللازم و الكافي لعمل الكمائن و اللعب على توتر و خلق حيرة تكفي لعمل الأفاعيل بالاحتلال الإسرائيلي.
و من المضحكات في تلك العملية الأخيرة أنها أريدت أن ترسم نصرًا فائقًا على غرار نصر يونيتان نتنياهو في ٦ يونيو ١٩٧٢ الذي حرر فيها ١٠٤ من ١٠٦ رهينة حرب صهيونية و قتل فيها جنديين .
و عند المقارنة السريعة ، نجد أنه لم تحقق تلك العملية إلا نكبة جديدة للاحتلال جعلت بيني غانتس و غازي آيكزوكت يستقلان من حكومة الحرب بدعوى استغلال و فشل نتنياهو في تحقيق أهدافه ، أي أن نتنياهو فاشل و يجب أن يستقيل .
و في حقيقة الأمر زادت وتيرة الهجوم على نتنياهو و اليمين و الحريديم الذين يمثلون من وجهة نظر اليسار و الآخرين أس الشرور سواء أكانوا أسر رهائن أو معارضين يرون في استمرار نتنياهو نهاية وشيكة لكيانهم المزعوم ، في إشارة لاتمام التفسخ و الانهيار الاجتماعي التي اشعلته المحكمة العليا بتأكيدها على إلزامية تجنيد الحريديم بعدد يبدأ من ٣٥٠٠ جندي لعدم كفاية العدد المطلوب في غزة و تساقط الجنود المدوي المتمثل ،على سبيل المثال ، في قتل لواءين مهمين في جيش الكيان اللقيط و على رأسهم لواء يفغينني .