بقلم/ إيمان سامي عباس
تخيّل أن تدخل مكتبك صباحًا، فتجد زميلك الجديد لا يشرب القهوة، لا يتأخر، لا يطلب إجازة، ولا يخطئ، ويجلس في صمتٍ مطبق، تلمع عيناه بضوءٍ رقمي، ويتحدث بصوتٍ معدني؛ فكلماته نبضاتٌ إلكترونية.
هذا ليس مشهدًا من فيلم خيالٍ علمي، بل واقعٌ بدأ يتشكّل بالفعل؛ لم تعد التكنولوجيا فكرةً مستقبلية، بل زميلَ عملٍ حقيقيًّا ينافسك على المكتب نفسه.
الآلة لم تعد تكتفي بتنفيذ الأوامر، بل أصبحت تفكّر وتحلّل، وربما تُبدع أحيانًا، فجأةً الوظائف التي كانت تبدو آمنة صارت على حافة الهاوية.
المترجم الذي كان يفتخر بدقّته، يواجه ترجمةً آلية تفهم المعنى والنبرة والعاطفة.
وموظف خدمة العملاء الذي ظنّ أن صوته هو مفتاح الثقة، اكتشف أن العملاء يفضّلون نظامًا لا يغضب ولا يخطئ، والمحاسب الذي قضى سنوات بين الجداول والأرقام، أصبح أمام برامج تحلّل البيانات وتكتشف الأخطاء في لحظة، وحتى السائق الذي يحفظ الطرقات عن ظهر قلب، صار يشاهد سياراتٍ تسير وحدها وتعرف الاتجاهات أفضل منه.
لكن المفارقة أن هذه الثورة لم تتوقف عند المهن البسيطة، صانعو البرمجيات أنفسهم وجدوا أدواتٍ تكتب الأكواد وتبني البرامج من وصفٍ لغوي بسيط.
الواقع أن ما يحدث ليس نهايةَ الطريق، بل فرزٌ حقيقي بين من يكتب كودًا ومن يفكّر كمبدعٍ رقمي، من يعتمد على النقل سيختفي، أما من يفهم طريقة تفكير التقنية ويبتكر ما بعدها، فسيصبح من روّاد العصر الذكي.

الوظائف تتغيّر.. والذكاء الاصطناعي يعيد رسم الخريطة المهنية
وبينما تسقط مهن، تزدهر أخرى.
لكن الطبيب لن يُستبدل، بل سيصبح أكثر قوة حين يمتلك شريكًا رقميًا يحلّل الأشعة والفحوص في ثوانٍ، ويرصد أدق المؤشرات قبل أن يراها الإنسان.
والممرضة لن تُلغى، لكنها ستحمل أجهزةً ذكية تتابع نبض المريض وتُرسل تنبيهاتٍ دقيقة قبل الخطر، والمعلّم لن يختفي، بل سيعمل جنبًا إلى جنب مع أنظمةٍ تتابع مستوى كل طالب وتقترح أساليب تعلمٍ تناسبه.
كما أن الصحفي لن يتوارى، بل سيستفيد من أدوات تحليل المحتوى التي تمنحه سبقًا أسرع ورؤيةً أوسع، أما المهندس فسيظل مطلوبًا، لكن أدوات التصميم المتطورة ستختصر له شهورًا من العمل في ساعات.
التقنية لا تقتل المهن، بل تغيّر شكلها إلى الأفضل، هي لا تُقصي الطبيب، بل من يرفض التطور، ولا تُلغِي المعلّم، بل من يصرّ على التدريس بأسلوب القرن الماضي.، ولن تُهمّش الصحفي، بل من يكتفي بالنقل دون تحليلٍ أو عمق.
النجاح في زمن التحوّل.. من يعمل أكثر لن ينجح، بل من يفكّر أذكى
حتى التخصّصات الجامعية تشهد إعادة ترتيب، يظنّ البعض أن علوم الحاسب ستتراجع أمام الذكاء الاصطناعي، لكن الحقيقة أن أحدهما لا يعيش دون الآخر، فمن يتقن الأولى ويضيف إليها فهم البيانات والتحليل الذكي، سيبقى في صدارة المستقبل.
إنها ليست حربَ تخصّصات، بل تطوّرٌ طبيعي يجعل المبرمج عالمَ بيانات، والمهندس مصمّمَ نظمٍ ذكية، والمحلّل صانعَ قرارٍ رقمي.
وفي قلب الجامعات، تتقدّم تخصصات مثل علوم الحاسب، الذكاء الاصطناعي، الأمن السيبراني، وهندسة الكمبيوتر لتصبح ركائز المستقبل، ويرافقها مجالاتٌ أخرى تتقاطع معها مثل اللغات والترجمة، التصميم الداخلي والعمارة، التجارة، والفنون التطبيقية والجميلة، إذ باتت جميعها توظّف أدوات التحليل والتصميم الذكي في أعمالها.
أما القطاع الطبي فيشهد تطورًا مذهلًا: الطب، وطب الأسنان، والعلاج الطبيعي، والصيدلة، والطب البيطري — جميعها تشهد ثورةً رقمية تجعل الطبيب أو الصيدلي أكثر دقةً وسرعةً وكفاءة، وحتى مجالات السياسة والاقتصاد لم تعد تُدار بالعاطفة وحدها، بل بالبيانات والرؤية المبنية على التحليل العميق.

ويبقى السؤال: هل سيحتاج الطبيب والمهندس وسائر التخصصات أن يصبحوا مبرمجين؟
الجواب: أن المستقبل لن يطلب من الطبيب أن يكتب كودًا، ولا المهندس أن يصمّم برنامجًا من الصفر، لكنه سيتطلب من كليهما فهم لغة التقنية والتعامل مع الأدوات الرقمية باحتراف.
المطلوب ليس دراسة البرمجة بعمق، بل إتقان أساسيات الحاسب والتحليل الرقمي، لأن التميّز لن يكون في من “يبرمج”، بل في من “يفكّر بعقلٍ يفهم لغة الآلة”.
ورغم هذا التحوّل الكبير، يبقى السؤال المعلّق: هل سنخسر وظائفنا؟ الجواب ليس حاسمًا، بل مرهونٌ بقدرتنا على التعلّم والتكيّف.
فالتكنولوجيا لن تسرق وظيفتك؛ الذي سيفعل ذلك هو شخصٌ آخر يعرف كيف يستخدمها أفضل منك.
إن من يقاوم التطور سيخرج من السباق، ومن يتقنه سيقود، إنها ثورةٌ لا تترك مكانًا للكسالى ولا مساحةً للثابتين. فالتقنية لا تهدّد الإنسان، بل تدعوه ليرتقي.، ولم يعد النجاح أن تعمل أكثر، بل أن تفكر أذكى.
«فمن يتعلّم كيف يتحدث بلغة المستقبل اليوم، سيصنع غدَه.»
ومن يصرّ على تجاهلها، سيكتشف متأخرًا أن الآلة لم تكن تطيعه فقط… بل كانت تتعلّم كيف تحلّ محلّه.
