الزعيم العابر للعصور بالضحك والبكاء
عادل إمام الحريف… الغول اليساري الذي لعب على كل الانظمه وهزم الإرهاب بالضحك
من النادر في تاريخ السينما العربية أن نجد فنانًا استطاع أن يجمع بين الشعبية الطاغية، والتميّز الفني، وبين المتعة الجماهيرية والطرح الاجتماعي العابر للزمن، كما فعل عادل إمام، الذي لا يمكن توصيفه إلا بعبارة: “عبقري السينما المصرية”.
بقلم: ريهام طارق
لم تكن زعامته الفنية وليدة صدفة، أو مجرد حصيلة نجاحات متراكمة، بل هي ثمرة لبنية إبداعية متكاملة، تشكلت على مدى عقود من العمل الدؤوب، والرؤية الثاقبة، والقدرة الفذّة على فهم نبض الجمهور وتحولات الواقع.
بدأت ملامح عبقرية عادل إمام تتشكل في أحضان المسرح، هذه المدرسة الأولى التي صقلت أدواته التعبيرية، ومنحته حسًّا إيقاعيًّا عاليًا في التعامل مع النص والشخصية والجمهور، كان هذا التكوين المسرحي بمثابة حجر الأساس الذي بنى عليه تجربته السينمائية لاحقًا؛ إذ لم يتعامل إمام مع التمثيل كأداء شكلي، بل كحالة وجودية يعيشها بكل تفاصيلها، مما منحه حضورًا طاغيًا على الشاشة، وخلق علاقة وجدانية فريدة بينه وبين المشاهد.
تكمن عبقرية عادل إمام في قدرته النادرة على التلوّن بين الشخصيات المختلفة، من الكوميديا السياسية اللاذعة، إلى التراجيديا الاجتماعية، إلى الرومانسية الإنسانية، فهو لا ينتمي إلى نوع فني واحد، بل يتقن التنقل برشاقة وذكاء بين أنماط الأداء المتنوعة، مانحًا كل شخصية أبعادًا سيكولوجية وطبقية وثقافية تجعلها انعكاسًا حقيقيًا للواقع المصري.
في أفلام مثل “اللعب مع الكبار” أو “الإرهاب والكباب”، لا يكتفي إمام بإضحاك الجمهور، بل يمارس ما يمكن تسميته بـ”التفكيك الناعم” للبنية الاجتماعية والسياسية، عبر خطاب سينمائي يتسم بالعمق والرمزية، ومن أبرز سمات تجربته الفنية وعيه الحاد بقضايا المجتمع المصري والعربي، فقد كانت أعماله مواقف حادة ضد الفساد والتطرف والطائفية، نجح في إدخال القضايا الشائكة إلى دائرة الضوء، لا عبر شعارات مباشرة، بل من خلال معالجة درامية ذكية، تستند إلى كوميديا جادة، تلك التي تُضحك لتُوقِظ.
فيلم “حسن ومرقص”، على سبيل المثال، ليس مجرد سرد فني لعلاقة مسيحي بمسلم، بل هو بيان ثقافي ضد الطائفية، أُنجز بفنية عالية، وخطاب ديني رفيع.
من المفارقات الدالة على فرادة عادل إمام، أنه تجاوز كونه نجم شباك ليصبح عنصرًا محفزًا للسياحة الداخلية والخارجية؛ إذ نظّمت كبرى الشركات السياحية العربية، ولسنوات، رحلات خصيصًا لحضور عروضه المسرحية، وهي سابقة لم تُسجَّل لأي فنان آخر في المنطقة. لقد خلق حول فنه طقسًا اجتماعيًا وجاذبية ثقافية، فأصبح المسرح وجهة، و”الزعيم” هو الحدث نفسه.
لم يكن عادل إمام فنانًا محايدًا أمام غارات الخطر الوطني؛ حين ساد الإرهاب جنوب مصر في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، لم يُدلِ بتصريحات، بل حمل سلاحه الأصيل: المسرح. وذهب بنفسه إلى معاقل الفكر الرجعي في صعيد مصر، ليقدّم عرضه المسرحي “الزعيم” في أسيوط، متحديًا الفكر الظلامي، ومؤكدًا أن الفن هو درع الوطن وسيفه في آنٍ معًا، عادل إمام هو من حارب بالكوميديا، وانتصر بالعقل، مانحًا الجمهور جرعة مقاومة ضد التغوّل الأيديولوجي.
ما يميّز عادل إمام عن معاصريه وخلفائه هو قدرته على صناعة شخصية تحاكي الإنسان المصري في جوهره، لا في مظهره فقط؛ شخصياته ليست مجرد تمثيل لطبقة اجتماعية، بل تركيبات نفسية تحمل صراعات، وأحلامًا، وخيبات، وآمالًا، تشبه نبض الشارع المصري، وهو بذلك لم يكن ممثلًا لشخصيات فحسب، بل ناقلًا لهواجس أمة بأكملها.
في النهاية، لا يمكن الحديث عن تاريخ السينما المصرية دون المرور بعادل إمام، ليس كواحدٍ من رموزها، بل كأحد أعمدتها الراسخة، الذي حوّل السينما إلى مرآة للمجتمع، وحوّل الضحك إلى أداة تفكير، وجعل من الشاشة ساحة حوار دائم بين الفن والواقع.
إن استمرار زعامته الفنية حتى اليوم، رغم شبه اعتزاله، ليس حنينًا إلى الماضي، بل لأن الجمهور لم يجد بعد فنانًا يحمل شعلة الحضور والرؤية والرسالة بنفس البراعة والصدق.
وهنا فقط، نفهم لماذا استحق عادل إمام لقب “الزعيم”… لأنه كان وما زال قائدًا لجبهة الفن الحقيقي.