الكاتب: مصطفي نصار
فاز زهران ممداني ، بشكل عام ومدوي أول عمدة مسلم مهاجركد من أصول أفريقية و جنوب أسيوية بعمدة نيويورك ، و هو المنصب الأهم من وسط جميع المدن و الولايات الأخرى نظرًا لإنها عاصمة المال و الأعمال في العالم ، فضلًا عن كونها أكبر تجمع لجالية يهودية خارج الأراضي المحتلة وفقًا لما أشارت دراسة ميدانية موسعة قامت بها شبكة QR نت المسحية ، و كذلك شبكة statictista العالمية للبحوث و البيانات الكمية ، ما أكسبها رمزية كبيرة و دلالة حيوية عند الإرادة الأمريكية و الإسرائيلية .
لكن لم يأت فوز ممداني غير التقليدي لدعمه القضية الفلسطينية فقط ، بل أتى نتيجة حملة إبداعية حقيقة لعبت باحترافية عالية و مهارة شاملة على وتيرة الحياة اليومية ، و التسهيل الداعم لحياة الناس بعيدًا بالطبع عن زخم الحملات التقليدية التي عزلت قواعد السياسة عن الشباب و المهاجرين و المكافحين ، جاعلة إياها تتمركز فقط في يد حفنة متمحورة حولها و لها السلطة و النفوذ ، غير التقليد الباهت الممل الذي يجعل من زيارة الكيان الإسرائيلي طقسًا مقدسًا لا يخترق ، و لا يمس في ظل المعبد السياسي الأمريكي ليكسرها ممداني ، مؤكدًا أنه سيظل في نيويورك ليتفقد أحيائها الخمسة الرئيسية .
فعلاوة على تلك المعادلة الصعبة و النادرة ، ركز ممداني على التنوع الثقافي و التعدد العقدي الذي تتميز به نيويورك ، و هي المدينة المهمين عليها عائلة كومو الأب ماريو و الأبن أندور منذ عام 1981 ، و كذلك حل المشكلة العقارية نظرًا لإن 300 ألف من سكان نيويورك يعانون من التشرد أو التنقل الشهري من بيت لآخر ، ما يعني عدم وجود أمان سكني ، فضلًا عن تركيزه الفذ و الرؤية المعمقة و الموجهة لعدالة المسلمين و الفلسطينيين المهدورة في المدينة منذ 2001 نتيجة كثرة الاعتداءات و التهميش الناجم عن الإسلامفوبيا المقيتة و عدم قبول المسلمين أو الفلسطينيين باعتبارهم يقعون تحت صور نمطية باهتة و مملة مثل الإرهاب و التطرف و معاداة السامية.
تأتي تلك الخلطة السحرية ضمن إطار أوسع يتضمن القرب المباشر من الناس و التسهيل عليهم و فهمه المعمق و الشامل لرحلة طويلة امتدت لخمس سنوات احتك فيها ممداني ، برغم الخلاف القوي و الرصين معه في العقيدة الاقتصادية و الدينية غير إنه في حقيقة الأمر تمكن من بناء شعبية قوية بفعل الاقتراب الفاعل من إنسان نشيط بنى حملته الانتخابية على القضايا السياسية و الكونية ، أو ما عرفه المحرر المحلي الرفيع جاي غازان في مقال مطول على صحفية الفاينشيال تايمز ، مميزًا بين سياستي البساطة القريبة و اللامسة للشعب ، و جيل زد الذي يتسم بالتلقائية و البساطة .
فالأبعد من ذلك يتجسد في تحديه للطبقة السارقة و الغنية في المدنية الدسمة و المثخنة بالنهب العكسي ، فدفع بالوعود الزاهية للفقراء و العمال الكادحين ، فكما ذكرت يوشكا بات الباحثة اليهودية التي أكدت بالتوثيق اليقيني و الأدلة المتشابكة و المتدخلة بالفعل تشهد ” تغيرًا حقيقًا ” عميقًا و جذريًا دفع الملياديرات لخوض حملة شعواء ، و دفعت نحو تحول جذري و شامل تكسح المدينة القديمة ، ممهدة الطريق الناعم لرسم خطوط عريضة حقيقة و سائرة بالتوازي المرتبط بالآثار المباشرة الخاصة بطوفان الأقصى و السياسة القمعية لدونالد ترامب .
الانقلاب الناعم و المدوي: ممداني باعتباره نتاج مباشر لأفكار والده صاعدًا عن طريق الطوفان الهادر
بعيدًا عن طريقة الفوز الحيوية و الكاسحة، يعرج بالموضوع لمستوى آخر الكاتب المسلم من أصل جنوب أفريقي آزاد عيسى في مقال مطول بعنوان ” ممداني باعتباره سياسيًا : من المهد للفوز ” عن ممداني نفسه باعتباره مهاجرًا ابن لمفكر هندي أوغندي ألا و هو محمود ممداني ذا الرؤية النقدية الحادة للإمبريالية الأمريكية و الإرث الاستعماري و مدرس لمادتي ما بعد الاستعمار و نقضه في عدة جامعات عالمية ، و المؤلف لعدة كتب فكرية مؤسسة لفكرة الوقوف للنقد و التحليل لا التبرير الأعمى المصحوب بالتزلف السائر مع الجماهير مثل كتابي ” المسلم الصالح و المسلم الشرير ” و كذلك ” دارفور : ناجون و منقذون ” المحطمين لخرافة ” الحرب على الإرهاب ” السخيفة المدمرة لعدة عواصم عربية مثل بغداد و دمشق .
فمفاجأة ممداني ، ليس فقط في فوزه المتوقع و فكرته المكررة عن المدينة ، نابعة من التغيير العالمي التي أحدثه الطوفان في الرؤية الحقيقة و المتحولة تجاه القضية الفلسطينية و المسلمين بعد أن كانت منارة حقيقة للتنميط المتزوج بالكراهية و الإسلامفوبيا التي باتت أبعد و أقل حدة تجاه المسلمين و العرب ، و تحديدًا فيما أسماه الفيلسوف الإيراني الأمريكي حميد دباشي باليقظة الأخلاقية إذ أخذ الأمريكان على عاتقهم بمحمل شخصي اختياره المقصود و المعتمد له .
فجانب آخر يميز ذلك الاختيار “الصادم ” هو المناهضة العلنية المباشرة ضد الكيان الصهيوني ، ما جعل حاخامات اليهودية الأرذثكوسية مثل ناطوري كارتر و سطمر ، فضلًا عن جيل زد اليهودي الذي يربو أكثر من نصفه لاعتبار الكيان الإسرائيلي دولة إبادة جماعية و فصل عنصري وفقًا لمركز الأبحاث الشهير بيو في مسح إحصائي لعام 2024 و 2025 الموضح بلا شك و لا أي احتمال مبسط حتمية و قوة التغير الفكري و الثقافي التي فعلته إسرائيل بعقولهم عندما رأوا في حقيقة الأمر بفداحة صريحة بلا أي رتوش عندما تحولت الإبادة الجماعية لعرض حي يبث على الهواء مباشرة.
كما أن المعركة الصريحة و المواجهة المباشرة بالفعل مع كومو و سلوا ، المرشحين المنافسين لممداني ، بالتهم الجنسية و الفضائح الأخلاقية المرتكبة و الحادثة بالفعل عملت على تأسيس ثقافة تسمى ” المقاومة الحتمية ” كما دعاها الصحفي إيريك لاش في مقاله على صحفيه ذي نيويوكر الأمريكية في عنوان ” نيويورك في عهد ممداني : حقبة جديدة تحت شاب ” ، مكملة فيه نتائج المعركة الساخنة ضد ” الترامبات ” بتعبير ممداني نفسه ، بإعلان الهزيمة الكاملة ضده ، و الرغبة في التعاون معه في مفارقة متناقضة تنم فقط عن هزيمة حقيقة وواقعية للرأسمالية المتوحشة و النيولبيرالية المستنزفة و مصاصة الدماء بشكل مستمر.
إن نتاج فوز ممداني يكمن في تجاوزه المؤكد و قفزه المدهش في اختراق النخب التقليدية من أصحاب الأموال و أدوات و سطوة اللوبي الإسرائيلي المتجذر في السياسية الداخلية الأمريكية الكامن و الماحية لمستقبل شخصيات كبرى داعمة لفلسطين و البسطاء الذين يهمهم القضية حتى و لو من منظور حقوقي علماني محض ، فذلك فوز تاريخي و انتصار مميز هدم ترامب و عقيدته السياسية و الاقتصادية النابعة من دائرة تسلم بعضها بعضًا ، فقط من اللوبي الصهيوني و إليه لحين هزيمة الطوفان الهادر لهم بدحر سيرتهم الهشة و المهترأة و ضعفها القائم بالأساس على المظلومية التاريخية و الذنب الأمريكي ، و كذلك الدوجما اليمينية الإفينجليكنية المتطرفة .
التطرف العكسي: المحو التدريجي للصهيونية في عقر دارها
بالعودة للسينارتو بول فندلي في كتابه ” من يجرؤ على الكلام ” و “الانفجار” ، المكرس حياته لمحاربة مد اللوبي الإسرائيلي و توغله العميق الفاحش و الشامل و المغير لكل شيء حتى وصفه نعوم تشومسكي المفكر الأمريكي الشهير ذات مرة ” بالآمر الناهي لأمريكا ” ، و هو الذي ساعد ترمب و دعمه بالإضافة للصهاينة أصحاب المال و العقارات كبيل أكمان و شيلدون أدرسلون و الشخصية الوحيدة التي شكرها ترمب في كلمته في الكينسيت الإسرائيلي يوم الأحد 26 أكتوبر بصيغة رسمية و غير مباشرة مريام أدريسلون .
و لكن هذا يؤكد باختصار شديد فهم التطرف الصهيوني الحاكم للغرب ، على مستوى الطبقة السياسة و النخب طيلة عقود طويلة بعملية معقدة كانت كفيلة بأن تجعل ” المسألة اليهودية ” محورًا أساسيًا في رسم السياسات و كسب ” النفس العاطفية و القلب لهم ” بتعبير المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي في كتابه وجهة العالم الإسلامي :المسألة اليهودية حتى أنه وصى بنشره و ترجمته عقب وفاته المنية ، لشدة حساسية و خطورة الأمر آنذاك على كل العائلة الموجودة .
فما غير الوعي الجمعي للغرب الاجتماعي ، و جعله بعيدًا تمامًا عن الغرب السياسي المصمد في التطرف الصهيوني هو ذلك الفيصل الكبير أن ما وجده النخب المثقفة و البسطاء هو أنهم يتعاملون مع حالة ظنوا أنها انتهت ألا وهي الهولوكوست ، و هذا هو ما جعل زيجمونت باومان في كتابه ” الحداثة و الهولوكوست ” يعترف بأن إسرائيل ” في حالة هولوكوست بلا توقف ” لا لشيء فقط لإنها ” دولة يهودية بنيت على أنقاض وطن الفلسطينيين ” بحد تعبير الكاتب الإسرائيلي جوناثان كوك في مقاله ” الغرب و إسرائيل من يحتاج لنزع التطرف لا غزة ” يشرح فيه بعدسة القارئ الرصين للتاريخ أن المظاهرات و ممداني نتاج طبيعي ” و ردة فعل عكسية ” إما لحالة إنكار علني أو كلمات جوفاء أو بيانات فارغة أو تسويف باهت لخطوات رمزية لا طائل منها .