رضوى عاشور …حينما يعبر الأديب عن القضايا الإنسانية بذاته المرهفة
حتى لا ننقاد للهاوية البائسة …نتذكر و نكتب .
يؤكد الأديب الفرنسي مارسيل بروست في كتابه يوميات القراءة أن الأديب قارئ “تجتاح قريحته “التعبيرات و الكلمات المعبرة عن تلك المشاعر المركبة و المعقدة . و ذلك يرجع في المقام الأول لعدة عوامل أدبية ، لاستمرار تدفق الكلمات في أغوار الذاكرة ، لتبني ما يتخطى العلاقة بين الأديب و القارئ ، مخترقة عنان سماء الخيال
كتب:مصطفى نصار.
و كذلك أرض الواقعية لتنسج عوالم خاصة تخرج المرء من ضيق البؤس و الرذائل الخاصة بالواقعية المفصلة في كل شيء ، لرحابة إما التاريخ الحقيقي التفاؤلي أو سعة المشاعر الصادقة ، التي تؤسس لقيم تشعر بها أنك مع صديق حميم أو رفيق عزيز ليس فقط أديب تقرأ لتزيد خيالك أو حسك المرهف و الحساس .
و يرتبط ذلك، وفقًا للناقد البريطاني كريج بروان ، بالاتصال الموثق و الوثيق بالعمق الذي يصل للقارئ عبر عناق و تواصل يشعر ، و يحس و ليس فقط تحكي قصة أو توصل معلومة ، بل للفهم العام و الشامل للحكاية ، و نفس و ذاته الكاتب الحقيقي و ما يرمي له، لتوصل أن فائدة الأدب و الفن مثلما قال إرنست غومبرتش في كتاب قصة الفن أن اللمسة الشخصية القريبة موضع فاصل و مميز للكتابة الأديبة المتكمزة حول الذات الإنسانية أو التجارب الصادقة التي نغير فيها و تغير فينا بأثر ملموس في حياتنا للتحسين أو التشويه ، أو مراجعة المواقف .
فتلكم المراجعات و المواقف الإنسانية تبني جسرًا وثيق الصلات ، عبر الكثير من التقنيات الأدبية و الأسلوبية ، ممهدًا الطريق لتخصيب الخيال المواجه للواقع ، أو كما وصفه جون توليكن بالأدب المصلوق الصالق ، لإنه ببساطة يعبر و يعبر به عما بداخل ذات الإنسان ، فالأدب بهذا المعنى ممهد للمحاكاة إما الساخرة أو الحزينة أو الوصفية أو المقاومة كما في حالة الأدب الفلسطيني المقاوم بتعبير غسان كنفاني .
اختلاف مشابه لأدب المقاومة ..حالة استثناء غلبت القاعدة الشائعة .
في حالة رضوى عاشور، الأمر مختلف من حيث التعبير و البناء مع القارئ ، فليس كما قال الأديب ذائع الصيت الكولومبي جابريل غاسيا ماركيز عن الكذب و التصنع في الأدب باعتباره عادة لضمان إما جذب الانتباه أو البيع ، أو توصيل الرسالة . و لذا ، يشوب حالة من الشجن و الحزن متخطيًا الرواية واصلة للقارئ لانفصالها التام أو الجزئي عن نفسية أو مشاعريته الفضفضة و الصادقة، و التي تشكل جزءًا ضخمًا من شخصية الإنسان باعتبارها البوصلة المستشعرة و المتذوقة للكتابة بشتى أنواعها من خوف و حزن و استياء و بؤس و سعادة و تفاؤل و حنكة و خبث أو مزيج بين صفتين أو أكثر خالقة بذلك حالة من العشوائية و عدم السبك و الحبك التي يضفي للرواية أو العمل الأدبي ثقله الذي يستحقه ، الأمر التي عظمته فلسفة ما بعد الحداثة باعتبارها تحديث و تطوير ، و ما هي إلا تخبط و ربكة أدبية .
و تعزز تلك الحالة العشوائية من التخبط مجرد السريان مع الأذواق المنتشرة ، و ليس مدى رقي أو رفعة الذوق ، فيتحول كمن انتقل من الهابير ماركت لسوق الجمعة دون معرفة لهجته أو لغته التي تعبر عنه ، ليفقد جماليته ، و يصبح مثلما ينظر مارك جيمينز في كتابه ما الجمالية؟باهتًا سائرًا على خطى من الهاوية التي يقفز لها بالتدريج ليتحطم أو ينسى في نهاية المطاف.
فاز الأدب العربي في تلك الموجة الهادرة من العشوائية و التخبط بالحفاظ على رونقه و تميزه المميز رغم محاولات التقليد و ندرة الكتبة المتميزين ، إلا أن عدد من الكتاب غيروا تلك المعادلة و على رأسهم المصريين و الفلسطينين لابتكارهم الأدب المقاوم و براعتهم في أدب السخرية و التهكم . و ما ليس هناك فقط من المقاومة و حس التأريخ الوثائقي إلا و نجد رضوى عاشور محمومة بقلبها و عقلها في رواية الطنطاورية كمؤرخة و أدبية تصف البواطن و الظواهر لترسم صورة مكتملة الملامح عن الألم و الحزن و الخيانة و الخذلان بعد الهزيمة بحجة التباحث و التطوير ، لتتبلور بذلك الرواية كرمز توثيقي فضلًا عن مقاومة مؤرشفة بالكامل سرديًا .
رضوى عاشور..بين الأدب المقاوم الموثق و المتصل و الترجمة المفسرة لمعنى الكلم .
ولدت الأدبية و الأكاديمية الناقدة رضوى عاشور بالجيزة منطقة المنيل عام ١٩٤٦ ، و تنتمي لأسرة متوسطة لها اهتمام خاص بالآداب و الثقافة ضد الإنجليز، و العربي بالتحديد. فوالدها مصطفي عاشور محامي شغوف و عاش فترة الاحتلال ، مشاركًا في عدة انتفاضات و مدافعًا عن حق مصر في تقرير المصير و الاستقلال . و لذا ، من الطبيعي أن تورث ابنته نبله و شجاعته في تحويل التاريخ أدبًا و الأدب تاريخيًا للدفاع عن القضايا العدالة بذاتيها ، و الوطنية مخترقة حدود الأدب المعتادة .
و لذلك ، عندما تزوجت الأديب المشهور مريد البرغوثي ، تحولت من رضوى عاشور لعشقيته و حبيبته الأولى و الأخيرة التي ربطهما ربطين مقدسين ، و هما حبهما الشعوري ، و تشاركهما في الثقافة و الفكر الأدبي ، لدرجة أن بعض النقاد مثل جاكمور ، فاخترت إكمال الدكتوراة في الأدب و النقد الإنجليزي في أمهرست بالولايات المتحدة ، و كتبت عن تلك الرحلة المليئة بالتجارب الجديدة في كتاب الرحلة أيام طالبة مصرية في أمريكا ، كأحد أهم كتب أدب الرحلات و أمتعها في كثافتها و سلاستها المرنة في الانتقال من يوم ليوم و من فكرة لأخرى.
و كتبت عدة روايات منها ثلاثية غرناطة ، و سوسن و خديجة ، و الطنطاوية ، و قطعة من أوربا ، و أطياف ، و جميعها تعبر إما تحت الرواية التاريخية أو الاجتماعية أو الأدب المقاوم سواء للاحتلال الإسرائيلي أو النظام المصري بطريقة غير مباشرة لما عانته منه من نفي ابنها الشاعر و الدكتور تميم البرغوثي ، و كذلك زوجها مريد البرغوثي رفيق عمرها و محبها ، الذي كتب في روايته رأيت رام الله أنه يشاطر الزمن لرؤيتها لكنه توفي قبلها في ٢٠١١ ، و تميم عاد لها عقب الثورة المصرية ، و نفي مجددًا في ٢٠١٤ فماتت كمدًا و قهرًا عليهما.
و على حد قول المتمرد التشيكي ، و أول رئيس في جمهورية التشيك فلاتسلاف هافل في كتاب قول المستضعفين، فإن أضعف الإيمان و ردة فعل تجاه أي استعمار او نصف استقلال توثيق أو أرشفة للجرائم و تاريخه الدموي و الهمجي ، لإن الكتابة بهذا المعنى و الدلالة مقاومة و ممانعة بالقلم . و لذلك ، تعد رواية الطنطاوية وثيقة شديدة الدلالة عن حقبة تاريخية مؤلمة تصيب الفرد بغصة في القلب من هندسة الإبادة الجماعية، التي دفنت الفلسطينين و صفوهم و بعد دفنهم لأهاليهم لتجميع صورة مثيرة للغثيان و الشفقة عبارة عن مقابر جماعية للآلاف و العشرات .
و بالإضافة لما لها من رصيد في الروايات و الآراء النقدية و الرصينة ، فهي تتميز أيضًا بوجهة نظر ثاقبة في الترجمة الأدبية و الفلسفية ، ملخصة رؤيتها الفلسفية في الترجمة في مقولة هينموطيقيا الترجمة، و تعني باختصار قدرة الترجمة على مطابقة تفسير النصوص ، مطابقة تغني أو تشرح النص من معني لآخر دون الإخلال بمعنى النص في لغته الأم ، مطابقة إياها في ترجمتها لموسوعة النقد الأدبي الصادرة من كامبردج البريطانية ، مخترقة بذلك المعنى الباهت للترجمة بنقل النصوص أو المعاني دون التفسير المناسب لها ، متوافقة بذلك مع رأي مترجمين كبار مثل مجدي جرجس و محمد عناني و ماهر شفيق فريد و حتى زميلتها في تحرير الترجمة للموسوعة ماري فايز جرجس.