إذ أراد أحدهم السفر بالزمن ليقلي النظر على التاريخ ،فسيجد الرائي التاريخ فلسفيًا باعتباره قصص و عبر و حكم و مواعظ .و بانتشار هذه الرواية عن التاريخ،يصبح مجرد رواية سخفية ؛و لذا يقلل هذا من قيمة التاريخ و يضحى في النهاية مفقود زخمه العلمي. هذه هي الرؤية التقليدية للتاريخ للعوام في عصر ابن خلدون.
فتلك الرؤية ظلت في عقل الإنسان حتى بلغ بالعربي حد التفريط المخيف في العصور الوسطى، و تحديدًا في عصر ابن خلدون المليء بالأزمات و الحروب و السرقات . فبفعل تلك العوامل،ألف ابن خلدون المقدمة الشهيرة لتكون علامة بارزة في الاجتماع و السياسة و التاريخ. فتاريخيًا ،عمل الغرب على محو تأثيره الجلي في العلوم الإنسانية . فأهم التأثيرات تمثلت في ابتكاره لعلمي العمران البشري و الحكمة التاريخية. أضحى علم العمران يُعرف باسم علم الاجتماع و الحكمة التاريخية باسم فلسفة التاريخ. فكما سبق العرب الغرب في العلم سبق ابن خلدون بابتكاره تلك العلوم قبل فيكو و كونت بقرابة خمس قرون .
و عند النظر لعلم العمران من وجهة نظر حديثة، نجد أنه تسليق منطقيًا و زمنيًا على دراسات الآن . فوفقًا للسيد فريد العطّاس أستاذ علم الاجتماع في الجامعة السنغافورية ، فالعصر لم يسمح لابن خلدون بإخراج فلسفته التاريخية للنور إلا من خلال المقدمة و تاريخ ابن خلدون المسمى بديوان المبتدأ و الخبر من العرب و العجم و البربر و من عاصرهم من ذوي السلطان الأعظم.
فمن وجهة نظر لسانية (linguistic overview)،يعد ابن خلدون ثاني مفسري اكتساب اللغة و تصينفها و تأثير قوتها على العقل و المجتمع ،و تأثير ضعف استخدامها من قبيل المجتمع، و أوضح تأثير الخطاب الفلسفي على المجتمع و نقده بعد شيخ الإسلام ابن تيمية. و اعترف بذلك كبار علماء اللغة ،و على رأسهم لودفيج فيجتشياين الذي ألمح أيضًا لتعلمه من المقدمة و مجموع الفتاوى!!
و عند الحديث عنها من وجهة نظر تاريخية عادلة،فيخبرنا المؤرخ و عالم الاجتماع إيفان زرينلي بأن ابن خلدون مؤرخ فذ يضع الأمور وفق نصابها الصحيح .و من هنا ،يمكن اعتبار ابن خلدون موسوعة تاريخية كاملة. و هو ما يترك انطباعًا لدى الإنسان الغربي الحديث بالتقصير و الدونية تجاه العرب خاصة. و هو ما يعتبره بعض المفكرين كجون هاندل بأن التراث الغربي مسروق بالكامل من الحضارات الأخرى .فهذه مبالغة من المؤرخين لإن لو كانت علوم الغرب مسروقة بالكامل ،لما راينا حضارتهم تنهار بالكامل. فالمنظور الخلدوني للحضارة يكمن في مركبات مفصلية ،و هذا التركيب هو ما أعطى للفلسفة الخلدونية إبداعها و رونقها الخاص.
وفسر ابن خلدون الازدهار والانهيار تفسيرًا يليق بعقل معاصر لأيامه و سبّاق لأيامنا. فاعتبر الانهيار علامة مميزة تنتمي للمنظومة كاملة،بدءً من الحكم و انتهاءً بالأخلاق . و المسألة هنا هي تصنيف الانهيار و مسالكه، فأتى عذبًا مفسرًا واضعًا أسس و ترياق له حقًا. فالقسم الأول هو غلبة دولة العقل على الأخلاق، و تصبح الحقوق “حقوق فردية”و المقصود بالفردية هنا الحيوانية. و قد أشار المؤرخ و الانثربولوجي جان-بول شارناي لهذه الخطاطة الروحية بتميزها الرفيع،و هو ما يميز الروح الخاص بالإسلام عن غيره ،فهو يرى الفرد له عقل يستخدم كوظيفة للنفكر و التأمل وإلا أصبح متغلبًا ،و تحول الإنسان تباعا لبهمية عجماء !!
أما القسم الثاني من الانهيار فهو انهيار شامل محق لإنه يقع ضمن غلبة دولة الهوى على كل شيء. فإذا سيطر الهوى ،قلبت الدنيا جحيمًا ،و الأعمال عبثًا ،و خفت أصوات العلماء ،و تعالت أصولت السفهاء. و نتيجة لذلك ،صك ابن خلدون عوامل و مقادير الاستبداد دون تعريفه اصطلاحيًا بالمعنى الشائع المستخدم اليوم .
١_الأولى هو غلبة دولة العقل على الأخلاق و الدين ،و هنا يكمن الخلل في التعامل المنطقي والفلسفي فيغلب العقل الدين فيصبح كالندي أو الشعائري فقط. الضرر الحقيقي الذي يقع هنا هو تزحية المركز عن أصله و جعله هامشيًا ،أو ما يسمى الآن بعلمنة الدين.
٢_ الحالة الثانية هي غلبة دولة الهوى على الدين و الأخلاق، و في هذه الحالة تتحول الحياة لـ غابة يؤكل فيها الفقير و الضعيف، و تصبح الدولة مجرد تركة في يد مجموعة فاسدة.
٣_الحالة الثالثة حالة مبهمة لإنها تقع بينهما و يمكنها تصنيفها بدولة العاطفة التى تحكم كما تحكم الأم على أطفالها فهي شديدة و عاطفية في نفس الوقت، و هذا يترك انطباعًا بأنها دولة مدللة.
و ذكاء ابن خلدون في الرد على موغلي العقل يتمثل في استخدام الحجج الخامس المنتشرة في عصره،بالطبع لا يقارن المنظور الخلدوني بالمنظور الخاص بشيخ الإسلام ابن تيمية لإن ببساطة ابن تيمية كان أكثر موسوعية من ابن خلدون.و بالعودة لمسألة الحجج الخامسة ،نعرفها بأنها حجج عقلية محضة تستخدم للدفاع و الرد و تنقسم إلي :
١_حجة التمثيل :و هي الحجة التى تستخدم في التشبيهات.
٢_حجة الاستعلام و هي الحجة التى تستخدم بصيغة سؤال لأغراض حجاجية كالنفي و الاستنكار و السخرية.
٣_حجة النفي و هي الحجة المنفسة شكلًا دون احتواء مضمون النفي. و تستخدم في حالة ضعف حجة الخصم و عدم عقلانيتها.
٤_الحجة المضادة :و هي حجة تنفي حجة الخصم باستخدام الضد الخاص بها.
٥_حجة السفسطة :قلب حجة للخصم و دحضها بقلب الدليل عليه .
و قد رد ابن خلدون على الحالة الثانية و المدافعين عنها. و تأتي عبقرية الرد الخلدوني على هذا النوع في نوع الرد نفسه لا حجته فقط. فالرد الآني كان عبارة عن فرض افترضه ابن خلدون كيف سيكون حالنا إذ ما حكمتها الأهواء؟!الإجابة المختصرة كامنة في حكم دولة الشرع لهم. و بالذهاب لأحد أكبر مؤرخي الحضارة و هو الدكتور وائل حلاق ،نجده متفقًا مع ابن خلدون تمامًا في أن الشريعة هي ما توفر للجميع “مناخ راقي للتسامح و التعايش”.و ساهم هذا المناخ في الحفاظ على تماسك كل من الحكم و الفرد، فلا طغت الدولة و لا قُهر الفرد و مات كمدًا .
و من هنا،يمكن اعتبار المنظور الخاص لفلسفة التاريخ و علم العمران هي تقدمية. و التقدمية هنا بمعنى لها سبق الريادة ،فقد قدم رؤية شاملة ماحصة دقيقة . و التميز بها هو اضطلاع التاريخ بالمنطق و الحضارات فخرج لنا بوجبة دسمة مشبعة.