تشريح نقدي لرواية سردية وطن للكاتب الليبي محمد عياد المغبوب

محمد عياد المغبوب

تشريح نقدى لرواية سردية وطن للكاتب الليبي محمد عياد المغبوب

تفكيك سردية الوطن .. خطاب الهوية والتمثيل

قراءة نقدية : د.عمر محفوظ

تُعد رواية سردية وطن للروائي الليبي محمد عياد المغبوب نصًّا سرديًا ذا طبيعة مركبة، تنزاح عن النموذج السردي التقليدي لتقدّم ما يمكن تسميته بـ”الرواية اللافاعل”، حيث تتفكك البنية، وتضطرب السرديات، وتتعدد الأصوات، وتغيب اليقينيات. إنها رواية ضد التمركز، ضد الأحادية، ضد الخطاب الرسمي، وتعيد إنتاج الوطن لا بوصفه كيانًا محددًا، بل كحلم متشظٍ، وجغرافيا ممزقة، وتاريخ مفتوح على جراحه.

مركزية الرواية

أولًا: قراءة تفكيكية للمفردة المركزية “الوطن”
يبدأ التفكيك من اللغة، ومن العنوان نفسه: سردية وطن. العنوان يُوحي منذ البدء بأن الوطن ليس حضورًا ماديًا أو كيانًا متماسكًا، بل هو سردية، أي خطاب محكوم بآليات التمثيل، وقابل للقراءة والهدم. هذا ما يتماشى مع منظور دريدا، الذي يرفض التمركز حول أي دالٍّ نهائي. وهنا لا نجد الوطن في الرواية بوصفه صورة رومانسية، بل كـ”أثر” ملتبس:
“طرابلس ليست مجرد مدينة، بل هي امرأة جميلة تغريك، ثم تدير لك ظهرها، وتتركك في منتصف الحلم”.
هذه العبارة تُظهر التباس العلاقة بالوطن: حضورٌ أنثويٌّ شهويٌّ لا يستقر، يراوغك ثم يختفي، أي أن الوطن ليس جغرافيا بل غواية سردية.
ثانيًا: الهويات الهشة والتقاطع مع الكائنات
في مشهد سوريالي يمثّل قلب البناء التفكيكي، يحلم الراوي بأنه تحول إلى دجاجة:
“استيقظت على نفخة هواء باردة، واعتقدت أنني دجاجة. شعرت بذيلٍ ينبت لي، ورغبة في النقنقة!”.
هذا التحوّل الكافكوي يُفكّك الهوية البشرية، ويُسائل التراتب القيمي الذي يُعلي من الإنسان بوصفه مركزًا للمعنى. التحول إلى دجاجة هنا لا يمثل سقوطًا بيولوجيًا فقط، بل سقوطًا سياسيًا – سقوط الوطن في مهزلة الاغتراب والعبثية. فمَن لا وطن له، لا شكل له، ولا اسم.
ثالثًا: الخطاب الأنثوي كمجال للمقاومة والتقويض
الحضور الأنثوي المكثف ليس زينة جمالية، بل هو إستراتيجية سردية لتفكيك خطاب الذكورة القومية. شخصية “مليّة”، المرأة المغربية التي تجمع بين الحنان والغموض، تُجسّد الوطن بوصفه علاقة فاشلة:
“لم تكن مليّة فقط امرأة، بل كانت مزيجًا من المطر، والمطر لا يُمتلك، بل يُنتظر، ثم يُنسى بعد أن يُبللك”.
هنا تتحول المرأة إلى استعارة للهوية – لا تُعرّف، لا تُؤطّر، بل تُعاش بوصفها لحظة عابرة. إنها رفض للبنية الصلبة، وتأكيد على سيولة الذات، كما يؤكد بودريار، “إن الهوية لا تُعرّف، بل تُستهلك”.
رابعًا: السرد المفتوح وتفكيك الخط الزمني
الرواية لا تتقيد بزمن خطي، بل تتنقل بين أزمنة متعددة: من الغزو الإيطالي (1911) إلى ما بعد فبراير (2011)، مرورًا بسرديات الاستعمار والملكية والانقلابات والثورات. ولكن هذا التنقل ليس تاريخيًا، بل تفكيكيًا. إننا لا نقرأ تاريخ ليبيا بل نعيد مساءلته:
“الطليان دخلوا ليبيا حاملين صلبانهم، وتركوا لنا الخراب والجدل حول الهوية”.

تاثير الاحتلال الايطالى على ليبيا

الرواية لا تؤرخ بل تهدم التأريخ؛ وتستبدل التاريخ الرسمي بـ”سرديات الصمت”، أو كما يسميها هومي بابا بـ “ما بعد الذاكرة”.
خامسًا: صورة المدينة كموقع للتشظي
مدينة طرابلس، وهي مسرح الأحداث، ليست فضاءً ثابتًا، بل تتشظى سرديًا. كل شارع فيها يختزن سردية موازية، وكل مقهى يمتلك حكايةً تقوض السرد المركزي:
“طرابلس التي أعرفها ليست طرابلس التي يكتب عنها التلفاز. طرابلسي أنا، تلك التي يسكنها الصمت والخوف وابتسامات العابرين”.
تفكيك المدينة هنا يقوّض فكرة المركز، ويؤكد على ما بعد الكولونيالية: إذ أن المدينة التي كانت “عاصمة وطن” صارت “موقعًا رماديًا”.
سادسًا: تفكيك السلطة عبر السخرية
السردية السياسية لا تُقدم بوصفها خطابًا جادًا، بل عبر تداخلات السخرية والعبث. ففي إحدى المشاهد، يدخل الراوي في حوار داخلي مع “الديك الوطني”، ذلك الذي يرفض أن يصيح إلا في لحظة الانقلاب!
“قال الديك: لا أصيح قبل الانقلابات، فأنا وطني! قلت له: إذن اصمت، فقد انتهى الوطن”.
هذا المشهد يُفكك الخطاب الوطني السلطوي عبر محاكاته كاريكاتوريًا، وهذا يشبه ما أشار إليه ميشيل فوكو في نقده للخطابات المهيمنة: “قوة الخطاب في قدرته على الإيهام لا في صدقه”.
سابعًا: الموت كمرآة للحياة / الحياة كخديعة
في خاتمة الرواية، نجد ذلك المقطع الذي يُعد ذروة التفكيك:
“كنت على متن الطائرة، أفكر أنني لم أعد أمتلك من هذا الوطن شيئًا، لا لغة، ولا بيت، ولا حتى موتًا يشبهني!”.
ففي النهاية، يتبقى من الوطن أثر لغوي، ذكرى غامضة، نفي مضاعف للانتماء. والذات – التي ظنّت أنها تكتب التاريخ – تكتشف أنها هي نفسها قصة مروية من قِبل الآخر.
خاتمة نقدية: الرواية كخطاب ما بعد وطن
في ضوء المنهج التفكيكي، سردية وطن ليست رواية عن ليبيا، بل رواية ضد ليبيا الرسمية، ضد الوطن الذي أُنتج عبر عنف السلطة والاستعمار والأبوة الاجتماعية. إنها رواية تُفكك الذات كما تُفكك الجغرافيا والتاريخ.
هي نص ما بعد – ما بعد القومية، ما بعد الهوية، ما بعد الوطن. وهي في هذا تضع نفسها إلى جانب روايات عزازيل (يوسف زيدان) وذاكرة الجسد (أحلام مستغانمي) ولكنها تتفرد بأنها تكتب من الأطراف لا من المركز.
من هنا، نخلص إلى أن محمد عياد المغبوب قدّم عملاً سرديًا يستحق أن يُدرَّس في أقسام “نقد ما بعد الاستعمار”، وأن يُقرأ بوصفه بيانًا أدبيًا لهويات تم تأجيلها طويلًا، لكنها عادت الآن، لا لتحيا، بل لتقول:
“أنا الوطن الذي نُفي من ذاته، ولا يزال يكتب نفسه في الظلام.”

بقلم الكاتب والناقد الكبير : د.عمر محفوظ

Related posts

بالفيديو .. بعد مرور 42 عاما على وفاتها..مفاجأة مدوية في طريقة وتاريخ وفاة ميمي شكيب

بالفيديو / أهم الرموز الاعلامية في تاريخ ماسبيرو .. تعليق شيرين الشافعي “65 عاما علي البث”

التلفزيون المصري بين التأسيس و التحديث… ستة عقود من البث و الريادة