جاء الفنان أحمد زكي للقاهرة وهو في العشرين من العمر، وفي داخله أشياء كثيره “المعهد، الطموح والمعاناه والوسط الفني وصعوبة التجانس معه”، حيث أنه قضىٰ حياته في الزقازيق مع أناس بسطاء بلا عُقد العظمه ولا هستيريا الشهره.
وفجأه في يوم عيد ميلاده الثلاثين، نظر إلىٰ السنين التي مرت وقال: أنا سُرقت، نشلوا مني عشر سنين، عندما يكبر الإنسان يتيمًا تختلط الأشياء في نفسه، الإبتسامة بالحزن والحزن بالضحك والضحك بالدموع، أنا إنسان سريع البكاء لا أبتسم لا أمزح.
وعن روتين أيامه التي كانت تمُر ببطء قال: كنت آخذ كتاب ليلة القدر لمصطفىٰ أمين أقرأ فيه وأبكي، أدخل إلىٰ السينما وأجلس لأشاهد ميلودراما درجة ثالثة فأجد دموعي تسيل وأبكي، وعندما أخرج من العرض وآخذ في تحليل الفيلم قد أجده سخيفًا وأضحك من نفسي، لكنني أمام المآسي أبكي بشكل غير طبيعي أو ربما هذا هو الطبيعي، ومن لا يبكي هو في النهاية إنسان يحبس أحاسيسه ويكبتها.
توفي والده وهو في السنة الأولىٰ ولم يكن له في الدنيا سواه تركه ومات، أمه كانت فلاحه صبيه صغيرة السن فلا يجوز أن تظل عزباء، فزوجوها وعاشت مع زوجها، وكبر أحمد زكي في بيوت العائلة بلا إخوه، ورأىٰ أمه للمرة الأولىٰ وهو في السابعة.
وذات يوم جاءت أمه إلىٰ البيت وكانت عيونها حزينة جدًا، وكانت تنظر له بعينين حزينتين، ثم قبلته دون أن تتكلم ورحلت، شعر وقتها باحتواء غريب فهذه النظره ظلت تصطحبه طوال عمره ثم أدرك أنه لا يعرف كلمة أب وأم، وعندما تمر في حوار مسلسل أو فيلم كلمة بابا أو ماما، يشعر بحرج ويستعصي عليه نطق الكلمة.
وبعد فتره اشترك في مهرجان المدارس الثانوية ونال جائزة أفضل ممثل علىٰ مستوىٰ مدارس الجمهورية، حينها سمع أكثر من شخص يهمس قائلًا: هذا الولد إذا أتىٰ للقاهرة يمكنه الدخول لمعهد التمثيل.
وكانت القاهرة بالنسبة له مثل الحلم سمع عنها ولم يراها بل كان يشعر أنها في الناحية الأخرىٰ من العالم، لقد كانت السنوات الأولىٰ في القاهرة صعبه ومثيره.
ثم يواصل أحمد زكي قائلًا: ثلاثة أرباع طاقتي كانت تهدر في تفكيري بكيف أتعامل مع الناس، والربع الباقي للفن، الوسط الفني وسط غريب مشحون بالكثير من النفاق والخوف والقلق، أشاهد الناس تسلم علىٰ بعضها بحرارة، وأول ما يدير أحدهم ظهره تنهال عليه الشتائم ويُقذف بالنميمة ومع الوقت والتجارب أدركت أن الناس في النهاية ليست بيضاء وسوداء، إنما هناك المخطط والمنقط والأخضر والأحمر والأصفر، أشكال وألوان.
وصف أحمد زكي نفسه قائلًا: أنا لا أجيد الفلسفة ولا العلوم العويصة، أنا رجل بسيط جدًا لديه أحاسيس يريد التعبير عنها ليس لي أي مذهب سياسي، أنا إنسان ممثل يبحث عن وسائل للتعبير عن الإنسان.
وأضاف: الإنسان في هذا العصر يعيش وسط عواصف من الماديات الجنونية، والسينما في بلادنا تظل تتطرق إليه بسطحية، هدفي هو ابن آدم ( تشريحه، السير وراءه، ملاحقته، الكشف عما وراء الكلمات، وما هو خلف الحوار المباشر، الإنسان ومتناقضاته، أي إنسان لأن
المعاناه هي واحده علىٰ كافه الطبقات وجميع الثقافات لكن الجوهر يظل واحد).
فجميع الشخصيات التي قام بآدائها في السينما حزينة، ظريفة، محبطة، حالمة، متأملة، فهو يتعاطف مع كل الأدوار، غير أنه يعتز بشخصية إسماعيل في فيلم (عيون لا تنام) لأن فيها أربع نقلات في الإحساس.
وفي هذا الفيلم جملة أتعبته جدًا علىٰ حد تعبيره عندما سألته مديحة كامل: إنت بتحبني يا إسماعيل؟ فكيف يجيب هذا الولد الميكانيكي الذي يجهل معنىٰ الحب، وأي شيء عنه؟ يجيبها: أنا ما عرفش إيه هو الحب، لكن إذا كان الحب هو إني أكون عايز أشوفك بإستمرار، ولما بشوفك ما يبقاش فيه غيرك في الدنيا وعايزك ليّا أنا بس.. يبقى بحبك.
كانت تلك كلمات الراحل الكبير أحمد زكي الذي رحل عن عالمنا يوم ٢٧ من مارس لعام ٢٠٠٥م، عن عمر خمسة وخمسون عامًا، تاركًا رصيدًا هائلًا من الأعمال التي دلت علىٰ عبقريته وإبداعه.