المرتبات المتدنية: عندما تتحول الشركات إلى “مدارس تدريب” للمنافسين

عندما تتحول الشركات إلى “مدارس تدريب مجانية” للمنافسين: سياسة خفض الرواتب واستنزاف المواهب

كتب باهر رجب

 

“المرتبات المتدنية”في سوق العمل سريع الوتيرة، تتبنى بعض الشركات فلسفة إدارية ترى في رواتب الموظفين مجرد تكلفة تشغيل يجب تقليلها لتحقيق أعلى هوامش مالية ممكنة. لكن الحساب القصير المدى لهذه السياسة ينطوي على مخاطر استراتيجية جسيمة تهدد كيان المنشأة ذاتها. فالشركة التي تدفع مرتبات أقل من سوق العمل، ظنا منها أنها تمارس “توفيرا ذكيا”، تتحول في الواقع إلى مدرسة تدريب مجانية للمنافسين، حيث تتحمل تكاليف صقل المهارات وخبرات الموظفين، ليجني ثمار هذا الاستثمار المنافسون بجذب هؤلاء الكفاءات المدربة بأجور عادلة.

 

من ناحية الموظف: هجرة مستمرة للكفاءات

يبدأ الأمر عندما يقبل الموظف، خاصة في بداية مسيرته المهنية، على العمل براتب أقل من مستحقه، فيتحمل هذا الوضع كمرحلة مؤقتة لاكتساب الخبرة والتدريب. وخلال هذه الفترة، تستثمر الشركة في تطوير مهاراته عبر برامج تدريبية قد تشمل كتيبات تدريبية متخصصة مثل النماذج الاحترافية المتوفرة على منصات مختلفه ، والتي تتراوح بين كتيبات تدريب الموظفين وكتيبات تطوير المهارات التقنية .

مع تراكم الخبرات وصقل المهارات، سرعان ما يدرك الموظف أن قيمته السوقية تفوق ما تتقاضاه الشركة بكثير. وفي هذه المرحلة، لا يتردد في طلب فرص أفضل لدى المنافسين الذين يقدّرون كفاءته ماديا ومعنويا. والنتيجة النهائية هي أن الشركة تكون قد أنفقت الوقت والمال على تدريب وتطوير موظفين، لتصبح في النهاية جهة تدريب مجانية لصالح المنافسين.

 

من ناحية المنافسين: جني ثمار تدريب الآخرين

المنافس الذكي يدرك جيدا أن الشركات التي تتبع سياسة خفض الرواتب تشكل بالنسبة له مصدرا مستمرا للكوادر المدربة الجاهزة. فهو لا يحتاج إلى استثمار الأموال والوقت في تدريب موظفيه من الصفر، بل يمكنه ببساطة انتظار “الموجة من المواهب المدربة” القادمة من هذه الشركات.

عندما يستقبل المنافس موظفا قادما من شركة تتبع هذه السياسات، فإنه لا يحصل على موظف جاهز فحسب، بل يحصل على خبرة مكثفة مدعومة عادة بأفضل الممارسات والأنظمة. هذا الموظف غالبا ما يكون متحمسا ومشبع برغبة التقدير الذي حرم منه في شركته السابقة، مما يجعله أكثر إنتاجية وانتماء لبيئة العمل الجديدة التي تقدر كفاءته بشكل عادل.

 

من ناحية الشركة: دوامة هدم الذات

“المرتبات المتدنية” بدلا من بناء قوى عاملة مستقرة، تتحول الشركة التي تدفع أقل من السوق إلى مجرد قائمة انتظار للمنافسين. وبدلا من الحفاظ على سمعة سوقية إيجابية، تتحول إلى محطة ترانزيت للمواهب والكفاءات. وبدلا من الافتخار بتطوير كوادرها، تصبح مجرد مزرعة بشرية تصدر كفاءاتها للمنافسين.

الأسوأ من ذلك هو أن الشركة تدخل في دوامة مدمرة لا تنتهي: توظيف مستمر لتعويض المفقودين. ثم تدريب للموظفين الجدد، ثم تسريبهم مرة أخرى للمنافسين. هذه الدوامة لا تستنزف الموارد المالية فحسب، بل تستنزف الخبرة المؤسسية والذاكرة التنظيمية. وتؤدي إلى تراجع جودة الخدمات أو المنتجات المقدمة. مما يؤثر سلبا على الميزة التنافسية للشركة على المدى الطويل.

 

الحل: الاستثمار في رأس المال البشري

كما يجب أن تدرك الشركات التي تدفع أقل من السوق أن المرتبات المتدنية  ليست مجرد تكلفة. بل هي استثمار حقيقي في الولاء والاستقرار. فالمال الذي “توفره” اليوم من خلال خفض الرواتب. ستدفعه غدا أضعافا مضاعفة في عمليات التوظيف والتدريب المستمرة. وفقدان الكفاءات، وتراكم الأخطاء التشغيلية.

حيث إن الشركات الذكية هي التي تستثمر في بناء ثقافة تنظيمية جاذبة. تعتمد نظام مكافآت عادلة تنافسية. وتوفر بيئة عمل محفزة، وفرص نمو حقيقية للموظفين. هذه الشركات تدرك أن رأس المال البشري هو أغلى أصولها. وأن الموظف الراضي هو أفضل استثمار يمكن أن تقدمه للمستقبل.

 

الخلاصة: التوفير الحقيقي يكمن في العدالة

الخلاصة الجوهرية بسيطة لكنها مصيرية: ادفع أقل = تدريب مجاني للمنافس. ادفع بشكل عادل ومناسب = كيان مستقر وقوي.

كما أن الشركات التي تواصل الاعتقاد بأن “من يرحل يمكن تعويضه بسهولة. وأن الشركة لن تقف على أحد“. هي شركات تحفر قبرها بيدها. ففي عصر الاقتصاد القائم على المعرفة والمهارات. لم يعد رأس المال المادي هو العامل الحاسم للنجاح. بل رأس المال البشري المبدع والمخلص. وهذا لا يمكن شراؤه بأسعار زهيدة. ولا الاحتفاظ به بغير عدالة مالية وتقدير حقيقي.

علاوة على ذلك الدرس الأهم الذي يجب أن تتعلمه كل شركة تسعى للبقاء والمنافسة هو أن التوفير الحقيقي لا يكون بتقليل النفقات على الموظفين. بل يكون بالاستثمار فيهم. لأنهم في النهاية وقود النجاح الحقيقي وأساس الاستمرارية في السوق.

Related posts

المواعظ على الفيسبوك.. وصلة الرحم المذبوحة في البيوت…

انطلاق صندوق دعم مشروعات الجمعيات الأهلية.. وافاق جديدة لـ “مصر الرقمية”

الاستمطار: من أداة لمكافحة الجفاف إلى سلاح في الصراعات الدولية