الرئيسية » المتحف المصرى الكبير ..  كيف صعدت آثار الحضارة المصرية إلى النور ؟!

المتحف المصرى الكبير ..  كيف صعدت آثار الحضارة المصرية إلى النور ؟!

by دعاء علي
0 comments

 

المتحف المصرى الكبير .. لسنوات طويلة ، كانت الآثار المصرية في أيدي الأجانب. كانوا هم من يتولّون التنقيب والاكتشاف والتوثيق، وكانت كل قطعة تخرج من باطن الأرض تُنسب إلى اسم بعثة أو عالم أوروبي، لا إلى الأيدي المصرية التي حملت التراب وساعدت في الحفر.

كتبت / ماريان مكاريوس

وبينما كانت مصر تزخر بكنوزها المدفونة تحت الرمال، كانت تلك الكنوز تتسرّب إلى متاحف العالم — من لندن إلى باريس، ومن برلين إلى نيويورك — حتى صار التاريخ المصري يُروى بلغاتٍ غير لغته، وتُعرض رموزه في قاعات لا تعرف حرارة شمس الجيزة ولا رائحة النيل.

لم يكن الأمر مجرد فقدان للتحف والتماثيل، بل خسارة للهوية والسرد التاريخي. فقد ظلّ علم المصريات (Egyptology) حكرًا على المستشرقين والعلماء الأجانب الذين كتبوا التاريخ كما رأوه هم، بينما حُرم المصريون من حقهم في أن يكونوا رواة قصتهم.

لكن منتصف القرن العشرين حمل بداية التحوّل الحقيقي. فمع صعود الوعي الثقافي والوطني في مصر الحديثة، بدأ المثقفون والعلماء يدركون أن استعادة الآثار لا تعني فقط حماية الحجارة، بل استرداد ذاكرة الأمة.
وكان من أوائل من رفعوا هذا النداء الدكتور طه حسين، وزير المعارف آنذاك، الذي رأى أن نهضة الثقافة المصرية لا تكتمل إلا عندما يشارك المصريون في دراسة آثارهم بأنفسهم. ومن هنا جاءت توجيهاته إلى المعماري الشاب كمال الملاخ ليتخصص في علم الآثار، ويسير على طريق العلماء الكبار، ولكن بعينٍ مصرية الهوى والانتماء.

كمال الملاخ… من الهندسة إلى اكتشاف مراكب الشمس

استجاب كمال الملاخ لهذه الدعوة بكل ما فيها من وطنية وشغف بالمعرفة، فجمع بين تكوينه كمعماري ومعرفته بعلم الآثار، ليصبح واحدًا من أبرز من كتبوا فصلًا جديدًا في علاقة المصريين بآثارهم.
وفي عام 1954، سجّل اسمه في التاريخ باكتشافه مراكب الشمس، تلك التحفة الفريدة التي كانت مدفونة بجوار الهرم الأكبر، فقام بالكشف عنها وترميمها لتُعرض أمام العالم كأحد أعظم الاكتشافات الأثرية في القرن العشرين. لم يكن الاكتشاف مجرد إنجاز علمي، بل رسالة رمزية مفادها أن المصريين قادرون على قراءة تاريخهم بأيديهم.

ولم يتوقف عطاؤه عند ذلك الحد، ففي منتصف خمسينيات القرن الماضي، كان تمثال رمسيس الثاني يقف في ميت رهينة، بعيدًا عن عيون الناس. ورأت الدولة في ذلك التمثال رمزًا يجب أن يحتل مكانه وسط العاصمة ليصبح وجهًا للحضارة المصرية الحديثة.
هكذا بدأت عملية نقل تمثال رمسيس الثاني إلى ميدان رمسيس عام 1955، وهي واحدة من أكبر العمليات الهندسية في تاريخ مصر الحديث، بإشراف كمال الملاخ ومجموعة من علماء الآثار والمهندسين المصريين.

استغرقت الرحلة يومين كاملين، وتابعها المصريون بشغف عبر الصحف والإذاعة، وهم يشاهدون ملكهم القديم يعبر شوارع القاهرة الحديثة في مشهد بدا كأن التاريخ يعود ليعيش بينهم من جديد.
كانت تلك اللحظة إعلانًا صريحًا بأن مصر استعادت سيادتها على ماضيها، وأن زمن الاكتشافات الأجنبية التي تُنسب لغير أهلها قد ولّى.

المتحف المصري الكبير… حلم يتحقق

مرّت العقود وتوالت الأجيال، لكن حلم المصريين بإنشاء صرحٍ يليق بحضارتهم ظلّ حيًا حتى تحقق في مطلع الألفية الجديدة.
ففي عام 2002، وُضع حجر الأساس لـ المتحف المصري الكبير (GEM) على مقربة من أهرام الجيزة، في موقعٍ يتّسع لاحتضان التاريخ بأكمله. المشروع، الذي يُعد اليوم أكبر متحف للآثار في العالم، بُني على مساحة 117 فدانًا، ويضم أكثر من 100 ألف قطعة أثرية من العصور الفرعونية واليونانية والرومانية، مع القدرة على استقبال خمسة ملايين زائر سنويًا.
أُنشئ المتحف بتمويل مشترك بين الحكومة المصرية والوكالة اليابانية للتعاون الدولي (جايكا)، وصممته شركة Heneghan Peng الأيرلندية، بينما تولت التنفيذ شركة أوراسكوم كونستراكشون.
جاء التصميم المعماري تحفة فنية في حد ذاته: واجهة زجاجية تطل على الأهرامات مباشرة، كأنها نافذة بين الماضي والحاضر، وبين الحضارة القديمة ومصر الحديثة.

رحلة طويلة من الإعداد إلى العرض

مرّ المشروع بثلاث مراحل رئيسية امتدت لأكثر من عقدين. بدأت بالبنية التحتية ومركز الترميم الذي يُعد من أكبر مراكز الترميم في العالم، مرورًا بإنشاء صالات العرض والمكتبة والمسرح وقاعات المؤتمرات.
وفي عام 2018، نقلت الهيئة الهندسية للقوات المسلحة من جديد تمثال رمسيس الثاني من ميدانه الشهير إلى بهو المتحف المصري الكبير، في رحلة ثانية أكملت دائرته الرمزية.
مُستقبِلًا الزوار من كل أنحاء العالم، شاهداً على مراحل تطور علاقة مصر بآثارها من الحفر إلى العرض.

كما نُقلت إلى المتحف مقتنيات الملك توت عنخ آمون كاملة لأول مرة في التاريخ، إلى جانب مركب خوفو الثانية ، لتغدو القصة مكتملة بين جيل الاكتشاف وجيل العرض.

أول متحف أخضر في الشرق الأوسط وأفريقيا

في عام 2023، حصل مشروع المتحف المصري الكبير على شهادة Edge Advance كأول متحف أخضر في الشرق الأوسط وأفريقيا، بفضل اعتماده أنظمة صديقة للبيئة في الإضاءة والتهوية والطاقة الشمسية.
وبذلك أصبح المتحف ليس فقط شاهدًا على الماضي، بل رمزًا للمستقبل المستدام الذي تسعى إليه مصر الحديثة.

رمزية المتحف… استرداد الذاكرة المصرية

إن افتتاح المتحف المصري الكبير لا يمثل مجرد حدث ثقافي أو سياحي، بل ذروة رحلة طويلة لاسترداد الذاكرة المصرية.
فمنذ أن كانت الآثار تُكتشف بأيدي الأجانب وتُعرض في متاحفهم، إلى أن أصبحت تُكتشف وتُعرض بأيدي المصريين وتُروى بلغتهم، تغيرت المعادلة تمامًا.
اليوم، يقف المتحف الكبير شاهدًا على قرنٍ من النضال العلمي والثقافي بدأ بكلمة من طه حسين، وجهد من كمال الملاخ، وتُوّج بعمل أجيال متعاقبة من علماء الآثار والمهندسين والجنود الذين صنعوا هذا الصرح العظيم.
فمن باطن الأرض خرجت آثار الحضارة المصرية، ومن بهو المتحف الكبير صعدت إلى النور، لتُعلن أن مصر لا تزال — كما كانت دائمًا — مهد التاريخ وحارسة الذاكرة الإنسانية.

You may also like

Leave a Comment

Are you sure want to unlock this post?
Unlock left : 0
Are you sure want to cancel subscription?
-
00:00
00:00
Update Required Flash plugin
-
00:00
00:00