الكلاب الضالة: بين جدل الرحمة و كابوس العقر

الكلاب الضالة: طوفان من الأسنان يهدد شوارعنا وأطفالنا

كتب باهر رجب

في ظل صمت رسمي متكرر، تتحول شوارع العديد من المدن والقرى العربية إلى ساحات موحشة، حيث بات صوت النباح المهدد ونبض الخوف هو السائد. لم تعد مشاهدات الكلاب الضالة المتربصة على أطراف الطرق أو تجمعاتها المهاجمة مجرد حوادث فردية، بل تحولت إلى ظاهرة مرعبة تهدد الأمن الشخصي للمواطنين، وتستدعي وقفة جادة لمواجهة هذا الخطر الداهم الذي يفتك بشكل خاص بأكثر الفئات ضعفا: الأطفال.

الكلاب الضالة
الكلاب الضالة

وجوه الخطر: بين الضالة و العقورة و المسعورة

ليست كل الكلاب التي تجوب الشوارع متشابهة في الدرجة أو الدافع، ويمكن تقسيم مصدر التهديد إلى ثلاث فئات رئيسية:

1. كلاب الشوارع (الضالة):

وهي الكلاب التي لا تملك مأوى أو راعى، وتعيش على فضلات الطعام والبحث في القمامة. تكمن خطورتها في سلوكها الدفاعي العدواني عندما تشعر بالتهديد، خاصة عند الاقتراب من مناطق نومها أو مصادر غذائها، وغالبا ما تهاجم في مجموعات مما يضاعف الخطر.

 

2. الكلاب العقورة (الشرسة):

وهي كلاب ذات طبع عدواني متأصل، قد تكون ضالة أو حتى ملكا لأشخاص. تتميز بهجماتها المفاجئة و العنيفة دون استفزاز ظاهر، وغالبا ما تستهدف الوجه والرقبة. وتشير تقارير إلى حوادث لهجوم “كلاب عقورة” على أطفال في الهند والمنطقة العربية.

 

3. الكلاب المسعورة:

وهي أعلى درجات الخطر، حيث يحمل الكلب المصاب بفيروس داء الكلب الذي يهاجم الجهاز العصبي. يفقد الكلب المسعور السيطرة على سلوكه، ويهاجم بعنف أي شيء يتحرك. العضة منه تعني نقل الفيروس القاتل بنسبة شبه مؤكدة إذا لم يعالج المصاب فورا. ففي باكستان وحدها، سجلت 19 حالة وفاة بداء الكلب من بين حوالي 29,000 حالة عضة كلب في مدينة كراتشي خلال عام 2025 فقط.

 

مأساة بالأرقام: إحصائيات مرعبة وجراح لا تندمل

الأرقام العالمية والمحلية تصف واقعا مأساويا. ففي الولايات المتحدة، هناك فرصة واحد من كل 50 للإصابة بعضة كلب سنويا، ويشكل الأطفال نسبة كبيرة من الضحايا، حيث يتلقون 70% من وفيات العضات. عالميا، يتسبب داء الكلب في وفاة ما يقدر بـ 59,000 شخص سنويا، معظمهم في آسيا وأفريقيا.

 

عربيا، تتصدر الجزائر المشهد بمأساوية بالغة. فمنذ أغسطس 2025، شهدت البلاد سلسلة حوادث مروعة: وفاة طفلة لم تتجاوز الثالثة من العمر بعد أن نهشتها كلاب ضالة في المسيلة, و وفاة طفلين (7 و 12 عاما) في أم البواقي متأثرين بعضات كلاب مسعورة. وتشير الإحصائيات إلى أن الجزائر تسجل 200,000 حالة عضة كلب سنويا، يشكل الأطفال النسبة الأكبر منها. أما في مصر، فتتكرر تقارير عن هجمات، مثل حادثة “كلب ضال يعقر 6 أطفال بقرية بني صالح بالفيوم”.

الكلاب الضالة

ضحايا بلا حيلة: لماذا الأطفال هم الهدف الأول؟

يقع الأطفال في صدارة الضحايا لعدة أسباب تجعلهم أهدافا سهلة:

الفضول وعدم الوعي:

ينجذب الأطفال الصغار إلى الحيوانات وقد يحاولون الاقتراب أو اللعب معها دون إدراك للخطر.

 

الحجم الصغير:

يراهم الكلب فريسة أسهل، وأقل تهديدا من الشخص البالغ.

 

سلوك الفرار:

عند الخوف، يجري الطفل غريزيا، مما يشعل غريزة المطاردة لدى الكلب.

 

اللعب في الأماكن المكشوفة

كالشوارع والأزقة، حيث تتربص الكلاب الضالة.

ولا تقتصر المعاناة على الإصابات الجسدية البليغة والتشوهات، بل تمتد إلى الصدمات النفسية العميقة والخوف الدائم من الخروج، ناهيك عن خطر الموت المؤلم بداء الكلب إذا تأخر العلاج.

الكلاب الضالة
الكلاب الضالة

مواجهة الخطر: كيف تتصرف عند هجوم كلب ضال؟

في مواجهة كلب ضال أو شرس، يمكن اتباع إرشادات الخبراء لتجنب أسوأ العواقب:

لا تجري أبدا:

الجري يثير غريزة المطاردة. تماسك وانسحب ببطء إلى الوراء.

 

لا تواجه الكلب بنظرة مباشرة:

تجنب النظر المباشر في عينيه فقد يفسره تحديا.

 

استخدم حاجزا

إذا أمكن، ضع حقيبة أو دراجة أو أي جسم بينك وبين الكلب.

 

في حالة الهجوم

اتخذ وضعية الأمان:

إذا سقطت أو شعرت بأن الهجوم حتمي، تكوم على نفسك كالجنين، ضم ركبتيك إلى صدرك، و احمى رأسك ورقبتك بذراعيك. ابق ساكنا ولا تصرخ.

 

إذا هاجم الكلب طفلا:

لا تسحبه بعنف. حاول إلهاء الكلب برمي غطاء أو جاكيت على رأسه، ثم ضع نفسك بين الطفل والكلب و تراجعا بهدوء.

 

بعد أي عضة، حتى لو كانت بسيطة، اغسل الجرح فوراً بالماء والصابون لمدة 15 دقيقة على الأقل، وتوجه مباشرة إلى أقرب مركز صحي لتلقي العلاج الوقائي ضد داء الكلب. الوقت هنا هو الفاصل بين الحياة والموت.

الكلاب الضالة

من رد الفعل إلى الفعل: خطة وطنية شاملة للقضاء على الأزمة

معالجة جذور الأزمة تتطلب خطة استراتيجية شاملة تعمل على عدة محاور، كما هو مخطط في بعض الاستراتيجيات الوطنية التي تتبنى نموذجا إنسانيا وعلميا:

1- التحكم في التكاثر (برامج التعقيم الجماعي):

تنفيذ برامج منهجية للإمساك والتعقيم ثم الإعادة إلى أماكن محددة. هذا هو الحل الأنجح والأكثر إنسانية على المدى الطويل، كما تنص عليه قواعد “التحكم في ولادة الحيوانات” في الهند.

 

2- التطعيم الإلزامي ضد داء الكلب:

تطعيم جميع الكلاب الضالة التي يتم الإمساك بها ضمن برامج التعقيم، لتكوين حاجز مناعي يقطع سلسلة انتقال المرض.

 

3- إدارة النفايات الصلبة:

معالجة أسباب التجمع، حيث تعد أكوام القمامة المكشوفة المغناطيس الرئيسي لتجمع وتكاثر الكلاب الضالة.

 

4- التوعية المجتمعية:

تثقيف المواطنين، وخاصة الأطفال، حول كيفية التعامل مع الكلاب وتجنب استفزازها، وأهمية الإبلاغ عن الحالات العدوانية وعدم التغذية العشوائية التي تجذبها إلى الأحياء السكنية.

 

5- إنشاء ملاجئ وإطار قانوني:

تطوير بنية تحتية لاستضافة الكلاب العدوانية أو التي لا يمكن إعادتها للشارع، وإصدار تشريعات تلزم البلديات بتنفيذ الخطط وتحميلها المسؤولية.

الكلاب الضالة
الكلاب الضالة

خاتمة: بين الرحمة والمسؤولية

الموقف من الكلاب الضالة لا يجب أن يقع في فخ الاختيار بين القسوة المفرطة والتسامح غير المسؤول. الرحمة بالحيوان لا تعني التهاون مع الخطر الذي يهدد أرواح البشر، خاصة الأبرياء. الحل يكمن في الموازنة العادلة التي تحمي صحة وسلامة المجتمع، وتتعامل مع المشكلة من جذورها بخطط علمية منظمة، بدلا من ردود الأفعال العشوائية التي تزيد الأزمة تعقيدا. حان الوقت لتحويل شوارعنا من ساحات رعب إلى فضاءات آمنة لأطفالنا.

👁 عدد المشاهدات : 5,016

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *