الفاشر وسقوطها والحرب المنسية .. إلي أين تتجه السودان بعد السقوط الحزين 
 
بقلم : مصطفى نصار
 
الفاشر ليست الوحيدة ….مسارح الجرائم البشعة  لمدن الدلج و كردفان و مدني .
 
صباح أول أمس، الموافق يوم الاثنين 27 أغسطس أعلنت مليشيا الدعم السريع بقيادة حميدتي السيطرة الكاملة على مدينة الفاشر عاصمة إقليم شمال دارفور ، و هو وحده كان ملجأ للنازحين داخل السودان من مختلف المدن داخل المناطق المختلفة الخاصة بالإقليم  ليحوي وحده 3 مليون شخص تحتضن الفاشر وحدها 300 ألف مواطن ، لتكتمل هكذا صورة الهيمنة شبه الكاملة على إقليم استراتيجي يمثل بالفعل ربع المساحة الإقليمية للسودان بنسبة تقترب من 25 % ، وسط صور مكتملة من المآسي المروعة التي تقترفها الميليشات منذ أكثر من عام و نصف وسط صمت مريب و لا مبالاة غير مبررة كليًا لصراع دامي قتل فيه 66 ألف شخص في خلال عامين !!
 
أما بالنسبة للجرائم المنظمة ، فقد وصلت حالة الاحتضار العمراني الجسيم في المدن السودانية كافة ، و على رأسها الفاشر لدرجة غير مسبوقة من المجاعة الفتاكة التي استخدمت ” باعتبارها سلاح حربي ” نتيجة الحصار الخانق الكبير ، و الذي نتج عنه تعرض أكثر من 150  ألف طفل لخطر المجاعة و سوء التغذية ، فضلًا عن انتشار شهادات مروعة من قتل ممنهج لأي أشخاص مجلبين لأبسط الإمدادت الغذائية أي قتلوا بتهمة الحصول على المستلزمات الأساسية  مثل الزيت و المكرونة و الشاي و السكر لمحاولة كسر بسيطة و رمزية للحصار الأشد و المحكم ، في مدينة كانت معقل حضاري أساسي و شوكة صامدة في حلق مليشيا الدعم السريع .
 
و لا يتوقف الإجرام الوحشي و الانتهاك الممنهج عند الفاشر وحدها ، إذ تمدد لمدن كثيرة وصلت فيها حجم المأساة الإنسانية لدرجة الاحتضار الفعلي لمدن الدلج و كردفان و ود مدني من انتشار المجاعة الفتاكة التي وصفها الباحث الانثروبولوجي البريطاني ألكس دي وال “بأنها مرعبة و مخيفة و غير مسبوقة “، فضلًا عن مظاهر أخرى مثل انعدام البنية التحتية و استهداف الصحفيين أو القبض عليهم مثل مراسل الجزيرة معمر إبراهيم في الفاشر ، و الإذلال المقصود و الاغتصاب و التمثيل بالجثث و كذلك الإعدامات الميدانية الكثيفة ، و انتهاء بتجارة الذهب المنهوب بالفعل ، فكما يؤكد الباحث أسامة أبوزيد في مقال له على موقع ميدل إيست آي تحت عنوان محزن ” صراع آخر دامي في السودان ، فهل يلتفت إليه العالم؟”. 
 
 علاوة على ذلك ، فإن سجل الدعم السريع في الإبادات الجماعية في دارفور دال و بشدة على فكرة انعدام الرحمة و الذمة التي دفعتهم لفعل ممارسات إبادية و جرائم حرب في تلك المدن الثلاثة، لدرجة مخيفة و غير مسبوقة في التاريخ السوداني الحديث ، فوفقًا لتحقيق موسع من محرر التنمية العالمية مارك تواسنت في الجارديان البريطانية   حصار الفاشر المرعب خلال 596 أي قبل شهر و نص تقريبًا من كتابته يؤكد فيه بصور الأقمار الصناعية أنه يقتل بلا شك في المدينة ” السودانية الواحدة ” بين 1000 و 1500 شخص ، وسط استفحال و استقواء فارغ و أجوف على المدنيين العزل في حصار و إبادة جماعية لمدة 700 يوم بالتحديد من القهر و الإذلال و الموت المتسارع لدرجة تطابق الوصف الأممي لكارثتي دارفور في بداية الألفية الجديدة و الآن بأنها ” أسوء كارثة إنسانية في العالم “.
 
غير ذلك ، تتميز الدعم السريع بأنها تريد فعل الإبادة في صمت و هدوء فلا صخب و لا إعلام يبلغ عنهم ، أو مثلما سمتها الكاتبة البريطانية نسرين مالك ” الحرب الصامتة ” التي لا يراد لها الإفصاح عنها فقط لإن فظائعها المزرية و الوحشية أوصلت السودان لانعدام الحياة العامة الطبيعية . فيقذف ما كل هو حي حتى الحيوانات و يعلق البشر بالجنازير بعد ذبحهم ، فضلًا عن وصول المجاعة فيها للدرجة الخامسة في مؤشر الجوع العالمي ، بمعنى آخر السودان كاملة الآن و تحديدًا المدن المحاصرة و المطوقة هي مدن على حافة البقاء ، وسط تحويل بلدهم الكبير لساحة نهب و سرقة لمصالح إقليمية و موازيين قوى أعمق و أعقد من حلها دبلوماسيًا .
 
معضلة المفاوضات و حل الحرب دبلوماسيًا …لا نهاية محددة في الأفق .
مع بدء الحرب السودانية قبل عامين و نصف العام تقريبًا ، و تحديدًا في إبريل 2023 ، صعدت الأصوات المنادية بضرورة حل الأزمة السودانية عن طريق الدبلوماسية الناعمة و المفاوضات الجارية ، و لكن وجدت عدة معضلات أساسية تحيل من إكمالها للنهاية ، أبسطها الطرف الآخر من الدعم  السريع المدعوم و الممول بالكامل إماراتيًا أنه يريد الاندماج البطيء مع السلطة في مدة عشر سنوات ، فشكل الانقسام الدبلوماسي و السياسي على إنهاء الأزمة بين خمس دول ألا وهما مصر و السعودية و الإمارات و الولايات المتحدة و طرفب التفاوض ممثلة في السودان نفسها فيما عرف باسم الرباعي التفاوضي .
 
فعلى مدار تلك الفترة المديدة للحرب ، عقدت العديد من المؤتمرات الدولية في دول عدة مثل سويسرا و المملكة المتحدة و لندن و فرنسا و البحرين ، قبيل حتى تشكيل الرباعي التفاوضي الحالي التي انتهت محاولتهم لإخراج بيان مشترك عقب مؤتمر البحرين المنعقد في أول أسبوع في الشهر الجاري، من أجل إيجاد حل دائم شامل و مستدام يشكل نهاية محددة و قاطعة للصراع الدامي و المؤلم في السودان ، تاركين المجال الحالي لعدة أسئلة غير مجابة بشكل قطعي بعد ، و خاصة بعد إصدار ما أطلق عليه خارطة الطريق التي اختتمت بمقابلة الفريق البرهان مع مسعد بولس كبير مستشاري الشئون العربية و الأفريقية للرئيس ترامب .
 
 إكمالًا على تلك الاجتماعات ، تظل الأسئلة المتعلقة بالأزمة السودانية مركبة و معقدة لإنها متداخلة و متعدد الأبعاد و الجوانب من جميع المجالات المختلفة سواء السياسية انتهاءً بالعسكرية ، فعلى سبيل المثال لا الحصر مصير الجرائم البشعة في المدن المحاصرة ، و موقف الإمارات الداعم لما وصفه الصحفي البريطاني أوسكار ريكيت بإشعال ” مغذي للحرب السودانية ” في تقرير موسع من عام و نص على موقع ميدل إيست أي البريطاني ، متوافقًا مع رأي رصين للباحثين في مؤسسة راؤول واليتبيرج معتصم علي ، و يوناح دايموند في مجلة فورين بوليسي بعنوان مثير ” هل تستطيع الإمارات إيقاف الحرب في السودان ؟” مستخلصين إلي أن تلك الحرب الكارثية هي غنيمة ذهبية للإمارات من حيث الثروات و المعادن النفسية و الطاقة الأحفورية ، فلم تريد إيقافها و هي تربح منها ؟ و تحقق منها نفوذ موازي مكمل لدورها البارز في الإقليم كافة من غزة و السودان و ختامًا باليمن المدمر و المقسم .
 
بالإضافة لما سبق ، فإن أطراف الرباعي نفسه يواجه توترات متبادلة حيال الملف نفسه ، ففي حين تدعم مصر المؤسسة الرسمية الممثلة في القوات المسلحة السودانية بالتوافق مع السعودية لدعمها و تأييدها الحازم و الحاسم ، فإن الخلافات هنا يقع من ناحية الإمارات التي دعمت الحكومة الموازية في السودان التي أعلنت من قبل حميدتي في أغسطس الماضي ، مستغلة ذلك في إشعال الخلافات بينها هي و مصر من ناحية ، و محاولة تهميش دور المفاوضات الجارية لأجل غير مسمى بالتحديد خالقة معضلة مزدوجة مكمنها الانقسام السوداني على أرض منقسمة بين فصيلين متحاربين ، و بين الأطراف المتفاوضة الرافضة بالإجماع بما فيهم الولايات المتحدة مسألة التقسيم أو حتى فكرته .
 
  فمجمل المشهد التفاوضي أنه لا نهاية محددة في الأفق لاختلافات عميقة ، مع وجود عدة عوائق غير مدروسة و غير واضحة المعالم حتى اللحظة . فعلى سبيل المثال ، يظل سبيل الإنهاء لخطر الدعم السريع مفتوحًا و خاصة بعد بناءهم سواتر ترابية عازلة ، و البدء في بناء هياكل موازية مصرفية و سياسية ، فضلًا لما ذكرته تقارير متعددة أنها سلسلة ممتدة من الحرب لحين الانتهاء الفعلي منها بهدف أحد الطرفين المتحاربين ، فهي حرب دامية مأساوية ذات “نافذة ضيقة ” بتعبير الباحث أسامة أبو زيد للانتهاء نهاية سليمة و أمل محدود و ضئيل بالسلام ، مع ظهور مخاوف مرجحة التقسيم و التفتيت الفعلي لتكوين ” دولة داخل الدولة” التي ستمثل قنبلة موقوتة على وشك الانفجار الهائل لحرب منسية تمامًا . 
 
الفاشر …مدينة مفتاحية للتقسيم المنشود دائمًا.
 
 تاريخيًا ، صدرت الفاشر باعتبارها عاصمة عريقة و مدينة ذات صيت واسع ، لما تمتلك من مكانة دينية و سياسية عريقة بالفعل كونها كانت مركزًا لجلب كسوة الكعبة المشرفة طيلة أكثر من نصف قرن من الزمن ، فضلًا عن كونها مدينة ذات مناخ ممتاز و تربة خصبة و أرض غنية بالموارد المعدنية و النفط ، و الأكثر أهمية من ذلك يكمن في كونها عاصمة إقليم دارفور الاستراتيجي كون المسيطر على دافور يتحكم تقريبًا بأرض السودان بطريقة شبه شاملة و محكمة .
 
مصالح وأهداف المستعمرين الجدد
و لعل هذه الأهمية الحيوية هي التي دفعت الغزاة والطغاة عبر الزمان في معاملة خاصة لهذا الإقليم إما برفعه والإهتمام به و تنميته و استخراج موارده لمصالح ضيقة أو استعمارية مثلما حدث في الاحتلال الانجليزي للسودان محولًا إياه لمنجمه مربح و فرخة تبيض ذهبًا بعد البلاد الأسيوية أو إبادته الوحشية و إهماله الجسيم الرامي به لمشارف التهلكة و حافة البقاء مثل ما يفعله حميدتي من جرائم مجنونة و مذابح انتقامية تهدف لتثيبت حكومة التأسيس الموازية عن طريق الترهيب و التخويف الممنهج و الانتقامي.
غير أنها الفاشر مفتاح عميق للدخول المحكم و المتوغل بحتمية مؤسسة لتنفيذ مشاريع تقسيم السودان،  و تفتيته لدولتين ، و خاصة بعد انفصال جنوب السودان عام ٢٠١١ عن السودان الكبير ، و من هنا يأتي التخوف المحتمل من اتساع الدائرة التوسيعية لحميدتي و مخططاته الخبيثة التي إن تركت مخذولة و دون رادع فستكون ككرة الثلج التي ستنتهي بإغراق الجميع لمجرد اصطدامها المدوي بحدث كبير يعزلها أو يعتم عليها مثل العامين الماضين بحق دون أن تنال حتى نصرة الكلمة المستحقة إنسانيًا و أخلاقيًا ، وصولًا طبعًا للمستوى السياسي الذي وضع التقسيم في تلك الحالة حلًا مستعبدًا في حالات استمرار التغطية أو أخذ إجراءات قوية تؤهل لتكوين صخرة متحجرة تنهي حرب لا بواكي لها ، ذاقت مرارتها الحارقة الشعب السوداني الذي يواجه أزمة إنسانية طاحنة .
 
			         
			         
														