بقلم/ إيمان سامي عباس
لا يخفى على أحد أن العالم يشهد منذ عقود طفرة تكنولوجية غير مسبوقة، كان من أبرز ملامحها انتشار مواقع التواصل الاجتماعي وسيطرتها على مختلف جوانب حياتنا اليومية وما يسمى العالم الافتراضي … تابع التقرير على تريندات.
طفرة تكنولوجية غيّرت ملامح الحياة
فقد تحوّلت هذه الوسائل من مجرد أدوات للترفيه والتواصل إلى واقع رقمي قائم بذاته، يشاركنا تفاصيل حياتنا ويؤثر في أفكارنا وسلوكياتنا وحتى مشاعرنا. لم يعد استخدام هذه المنصات مقتصرًا على فئة عمرية محددة، بل امتد ليشمل الصغار والكبار، المتعلمين وغير المتعلمين، حتى غدت جزءًا لا يتجزأ من ثقافتنا اليومية.
وعود البداية: التقريب والتواصل
في بداياتها، قدمت مواقع التواصل الاجتماعي وعودًا جميلة؛ وعدت بأنها ستقرب المسافات، وتربط الشعوب، وتوفر منابر حرة للتعبير عن الرأي، وساحات لتبادل المعرفة والخبرات. وقد صدقنا تلك الوعود، بل رحبنا بها، فسرعان ما أصبحنا نتواصل مع أقربائنا وأصدقائنا في الخارج بسهولة، نتابع الأحداث من مصادر مباشرة، نشارك في حملات توعوية أو مجتمعية، بل ونعمل ونتعلم من خلالها. كل ذلك جعل منها اختراعًا فريدًا يبدو أنه خُلق لخدمة الإنسان.
الوجه الآخر: الإدمان الرقمي والتبعية
لكن شيئًا فشيئًا، بدأت الملامح المظلمة لهذا العالم الرقمي في الظهور. بدأت العلاقة بين الإنسان ومواقع التواصل تتحول إلى علاقة تبعية، بل إلى حالة من الإدمان. الإشعارات، والإعجابات، والمشاركات، أصبحت مصدرًا فوريًا للشعور بالسعادة، لكنها مؤقتة وسطحية. ومع الوقت، بات الكثيرون يقضون ساعات طويلة في التصفح دون وعي، ينجرفون من منشور لآخر، ومن فيديو لآخر، دون أن يشعروا بحجم الوقت الذي يُهدر، والطاقة الذهنية التي تُستنزف، والعلاقات الواقعية التي تتآكل في المقابل.
التأثير على العلاقات الأسرية والاجتماعية
وإذا تأملنا في تأثير هذا العالم الافتراضي على علاقاتنا الاجتماعية، نجد أن الخسائر كثيرة ومؤلمة. لقد فقدت الجلسات العائلية روحها، وأصبح كل فرد من أفراد الأسرة يجلس في ركنه الخاص، غارقًا في هاتفه غاب الحوار، وغابت الضحكات المشتركة، وحتى الخلافات التي كانت تدل على التفاعل والتقارب، اختفت، لتحل مكانها عزلة إلكترونية صامتة. لم يعد الأب يعرف تفاصيل يوم ابنه، ولا الأم تعرف ما يشغل ابنتها، لأن كل فرد أصبح يعيش عالمًا منفصلاً، يشاركه مع الغرباء أكثر مما يشاركه مع أهله.
الأطفال والضياع في العالم الرقمي
بل إن الأطفال أنفسهم، الذين يُفترض أن ينموا في بيئة تحفّهم بالحب والتفاعل المباشر، أصبحوا ضحايا لهذا الواقع الرقمي. أصبحوا يتعلمون من مقاطع الفيديو القصيرة أكثر مما يتعلمون من المدرسة، ويتأثرون بمحتوى لا يخضع لأي رقابة تربوية أو أخلاقية. وبدلًا من أن يكتسبوا مهارات التواصل الاجتماعي من اللعب والتفاعل الواقعي، أصبحت مهاراتهم تتشكل وفق معايير “الترند”، والإعجابات، والمقاطع المنتشرة.
الشائعات والمعلومات المغلوطة: خطر حقيقي
ومن أخطر الظواهر التي صاحبت هذا التغير، انتشار الشائعات والمعلومات المغلوطة. فكل شخص لديه الآن منصة يبث منها ما يشاء، دون الحاجة إلى توثيق أو تأكد من صحة ما ينشره. قد ينتشر خبر كاذب خلال دقائق ويحدث أثرًا سلبيًا كبيرًا، سواء على مستوى الأفراد أو المجتمع ككل. وقد يؤدي هذا إلى تدمير سمعة أشخاص، أو نشر الذعر، أو حتى زعزعة الثقة في مؤسسات الدولة. ومع غياب الوعي الإعلامي، يصبح المستخدم العادي فريسة سهلة لكل ما يُنشر، يصدّق ويشارك دون تفكير.
الآثار النفسية: المقارنة واللا رضا
وعلى الجانب الشخصي، فإن إدمان مواقع التواصل يترك أثرًا نفسيًا لا يُستهان به. الشعور بالمقارنة المستمرة مع الآخرين، الإحساس بأن حياة الآخرين أفضل، وأجمل، وأكثر نجاحًا، يولّد مشاعر بالنقص وعدم الرضا عن الذات. فنحن ننسى أن ما يُنشر على هذه المواقع ليس إلا جزءًا منتقى بعناية من حياة الآخرين، وأن خلف الصور والفيديوهات هناك واقع قد يكون مليئًا بالتحديات والمشاكل. ومع ذلك، نظل نقارن واقعنا الحقيقي بما نراه من وهمٍ رقمي.
دعوة للوعي وإعادة التوازن
وفي ظل كل هذه التأثيرات، يصبح من غير المنطقي أن نستمر في النظر إلى هذه المواقع كأنها مجرد أدوات بريئة. بل من الضروري أن ندرك أنها تحمل جانبًا من الخطورة، وأننا نحن من نقرر إن كنا سنستخدمها لصالحنا أم نتركها تسيطر علينا. فالخلل ليس في الوسيلة نفسها، بل في طريقة استخدامها. والمشكلة لا تكمن في وجودها، بل في غياب الوعي والتوازن في التعامل معها.
استعادة الواقع: خطوات ضرورية
علينا أن نتعلم كيف نضع حدودًا لهذا الاستخدام، وأن نُعيد ترتيب أولوياتنا. أن نمنح الواقع قيمته من جديد، وأن نستثمر وقتنا في ما ينفعنا وينفع من حولنا. أن نخصص وقتًا للتفاعل المباشر مع من نحب، وللحديث العميق مع من يعيشون معنا. أن نحرص على تنمية أنفسنا، لا فقط متابعة نجاحات الآخرين. وأن نستخدم التكنولوجيا كوسيلة لتحقيق أحلامنا، لا كحائط يعيقنا عنها.
السؤال الأهم: تواصل حقيقي أم وهم؟
وفي النهاية، فإن السؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا هو: هل ما نعيشه اليوم هو تواصل حقيقي، أم مجرد وهم تواصل؟ هل نحن أقرب لبعضنا، أم أن المسافة بيننا زادت رغم قرب الشاشات؟ الإجابة عن هذا السؤال تحدد مستقبلنا، ومستقبل علاقتنا ببعضنا البعض، في زمنٍ أصبح فيه العالم الافتراضي يهدد بأن يحل محل الواقع، ما لم نستيقظ ونقرر أن نكون نحن من يقود هذا التحول، لا ضحاياه.