كتبت/ ماريان مكاريوس
الطبقة المتوسطة .. منذ نشأتها في ستينيات القرن الماضي، لم تكن الدراما المصرية مجرد حكايات مصورة للترفيه أو المتعة البصرية فحسب، بل كانت بمثابة مرآة صافية تعكس هموم المجتمع وتفاصيل حياته اليومية. وإذا نظرنا إلى العقود الماضية، سنجد أن الطبقة المتوسطة كانت الحاضر الأبرز في معظم الأعمال الدرامية، إذ مثلت صلة الوصل بين الفقر والغنى، وكانت منبع الحكايات الإنسانية المليئة بالطموح، الصراع، القيم، والتحديات. إلا أن السنوات الأخيرة شهدت انحسار هذه الطبقة عن الشاشة بشكل ملحوظ، لتفسح المجال أمام تطرفين دراميين: إما قصور وفيلات تُعرض فيها حياة الأثرياء بمبالغة، أو حارات شعبية وعشوائيات يغلب عليها العنف والفقر المدقع. وبين هذا وذاك، غابت صورة “المصري العادي” الذي يمثل الشريحة الأكبر من المجتمع.
الطبقة المتوسطة في دراما الماضي: قلب الحكاية
يكفي أن نستعيد مسلسلات مثل صابر ياعم صابر ، حيث عُرضت تحولات المجتمع المصري عبر عائلات تنتمي في معظمها إلى الطبقة المتوسطة، أو أرابيسك الذي تناول حياة “حسن النعماني” ابن الحارة الذي حمل قيم الحرفة والكرامة، أو لن أعيش في جلباب أبي الذي أضاء على رحلة صعود رجل بسيط إلى الثراء وما تبعها من صدامات مع الأبناء. حتى الأعمال الكوميدية مثل يوميات ونيس كانت تقدم نموذج الأسرة المتوسطة في تعاملها مع القيم الأخلاقية وقضايا التربية والتعليم.
اقرأ ايضا: مفاجأة: الأخضر يواصل الصعود الآن.. سعر الدولار الثلاثاء 26 أغسطس 2025
و افلام عدة لايمكن حصرها منها الحب فوق هضبة الهرم ، الموظفون في الأرض وحد السيف.
في تلك الأعمال، لم تكن الطبقة المتوسطة مجرد خلفية اجتماعية، بل كانت “المسرح الرئيسي” الذي تُنسج عليه الدراما.
فقد جسدت الصراعات اليومية كيف يحاول الأب تدبير مصاريف المدرسة، وكيف تسعى الأم لتربية أبنائها وسط ضغوط العصر، وكيف يعيش الشاب بين طموحه العلمي وقيود الواقع الاقتصادي، حيث كان المشاهد يرى نفسه في هذه الشخصيات، فيضحك لأفراحها ويتألم لمعاناتها.
التحول في مشهد الدراما الحديثة
مع بدايات الألفية، بدأت ملامح هذا الحضور تتراجع تدريجيًا، حتى وصلنا إلى العقد الأخير حيث باتت الدراما المصرية أقرب إلى ثنائية حادة:
دراما الرفاهية المفرطة: قصور فاخرة، سيارات حديثة، أزياء باهظة، وقصص حب تدور في عوالم بعيدة تمامًا عن واقع أغلب المشاهدين.
دراما العشوائيات والطبقة الفقيرة جدًا: تركيز على العنف، تجارة المخدرات، أو قصص الانتقام والصراعات الدموية.
هذا الانقسام الحاد خلق فجوة كبيرة بين المشاهد والدراما. فالمصري الذي ينتمي إلى الطبقة المتوسطة لم يعد يجد نفسه لا في قصص الثراء الباذخ، ولا في أجواء الحارات المليئة بالجرائم.
لماذا غابت الطبقة المتوسطة؟
يمكن تفسير هذا الغياب بعدة عوامل تجسدت في نقاط واضحة منها…
التحولات الاقتصادية والاجتماعية
الأزمات الاقتصادية المتعاقبة أضعفت حضور الطبقة المتوسطة نفسها في الواقع، فأصبح تجسيدها على الشاشة أقل جاذبية للمنتجين، الذين يفضلون نماذج أكثر تطرفًا أو إثارة.
اقرأ ايضا: عيار 21 يسجل 4575 جنيهًا.. أسعار الذهب بالصاغة الثلاثاء 26 أغسطس 2025
هيمنة السوق والإعلانات
الشركات الراعية تبحث عن صورة الرفاهية والبريق لتسويق منتجاتها، فصار التركيز على عالم الأغنياء أقرب لذوق المعلنين.
أما عن تأثير المنصات الرقمية، فالمنصات الجديدة تسعى لأعمال ذات طابع عالمي أو مشاهد مثيرة بصريًا، فمالت إلى إنتاج يركز على “الأكشن” أو الرفاهية، على حساب الحكايات البسيطة الواقعية و أصبحت الامركة هي للتصميم الغالب للعمل من حيث القصة و الملابس و الاثاث و حتى شكل الممثل فغابت روح المجتمع و انهارت تفاصيله.
ضعف الكتابة الواقعية الذي ادي لغياب روح المدرسة الواقعية التي اسسها المخرج العظيم صلاح ابوسيف مرورا بطيب الذكر عاطف الطيب و المبدع محمد خان و أيضا
كثير من كتاب الدراما المعاصرين لم يعايشوا نبض الطبقة المتوسطة كما كان الحال مع كتّاب جيل أسامة أنور عكاشة أو لينين الرملي، فغابت التفاصيل الصغيرة التي تصنع المصداقية.
الدراما ليست مجرد وسيلة تسلية، بل هي مرآة وذاكرة جمعية. وعندما تُمحى صورة الطبقة المتوسطة من هذه المرآة، يفقد المجتمع جزءًا من وعيه بذاته.
فالمشاهد الذي لا يرى نفسه في الشخصيات يفقد الإحساس بالانتماء للعمل الفني، فيتجه إلى أعمال أجنبية أو منصات أخرى تعكس له واقعه أو طموحاته.
و الاقتصار على الفقر المدقع أو الثراء الفاحش يرسم صورة غير واقعية عن مصر، وكأنها بلد بلا وسط، بينما الواقع مختلف تمامًا.
الطبقة المتوسطة كانت دائمًا تقدم “النموذج الإنساني” الذي يوازن بين الطموح والقيم، بين التقاليد والتجديد. غيابها يعني غياب القدوة التي يتعلم منها الشباب معنى الصبر والكفاح والنزاهة.
ضغوط الحياة وتعليم الأبناء
رغم هذا الانحسار، تبقى الحاجة ملحة لعودة الطبقة المتوسطة إلى قلب الدراما. فالجمهور لا يزال متعطشًا لرؤية شخصيات تشبهه، بملامح قريبة من حياته اليومية. الأعمال التي تلامس تفاصيل البيت المصري البسيط، الصراع على تعليم الأبناء، ضغوط المعيشة، وحتى أحلام السفر أو الترقي الوظيفي، كلها موضوعات قادرة على جذب المشاهد أكثر من أي “إبهار بصري” عابر.
و مثلا نجد أن فيلم (الهوى سلطان) كان بمثابة قطرة الندى في يوم مشمس حيث سلط الضوء على الطبقة المتوسطة مترنح بين الطبقة المتوسطة العليا و البسيطة بعيدا عن أي تشويه بصري او تدني جمالي.
لقد أثبتت أعمال قليلة في السنوات الأخيرة أنه ما زال بالإمكان استعادة هذا البريق، حينما حاولت بعض المسلسلات إعادة رسم ملامح الأسرة المتوسطة ولو بشكل جزئي. لكن الأمر يحتاج إلى إرادة فنية واعية، وعودة كتّاب قادرين على التقاط نبض الشارع من جديد.
نجاح وفشل وحب وإنكسار
إذا كانت الدراما انعكاسًا للواقع، فإن غياب الطبقة المتوسطة لا يعني سوى أن المرآة مكسورة.
فهذه الطبقة هي الأكثر تأثيرًا في تشكيل وعي المجتمع، وهي القادرة على أن تعكس قصص النجاح والفشل، الحب والانكسار، الطموح واليأس، كلها في صورة متوازنة لا تبالغ ولا تبتذل.
إن عودة الطبقة المتوسطة للشاشة ليست مجرد مطلب فني، بل هي ضرورة اجتماعية وثقافية، لأنها إعادة الاعتبار لوجه مصر الحقيقي. ومن دونها، تبقى الحكاية المصرية ناقصة، مشوهة، وعاجزة عن ملامسة قلب جمهورها. فكما كانت هذه الطبقة دائمًا أساس التوازن في المجتمع، فإنها تظل أيضًا أساس التوازن في الدراما.
المقال للكاتبة الأستاذة /
ماريان مكاريوس