التسلط الهدام .. من المؤكد أن ما يجري عند الاستسلام للاستبداد السياسي و الاقتصادي يكون له توابع في غاية الخطورة وهو مانسلط عليه الضوء ونستعرضه في السطور القادمة مع تريندات.
آية كامل، مصطفى أبو الوفا، و كذلك عدد من النساء وقعوا بحسبانهم ضحايا لعدة جرائم نتيجة أسباب مختلفة إما ابتزاز أو انتحار لمعاناتهم من أزمات نفسية معقدة أو اجتماعية أو أسرية ، لكن تشترك فيها كلها أنها واقعة في ظل مجتمع تسلطي محض يضع معايير معوجة للانتظام الاجتماعي و السوية و الأدب و الاحتواء النفسي مخافة من كسر القشرة التي تحوطه، و هي ذاتها التي حولته لمسخ سائر على الأرض حينما رضي أن يتعايش مع وحش كاسر من تعيش معه فشل و انحط لأدنى من دركات المنافقين و البهائم ألا و هو الاستبداد و الطغيان قائدًا أي دولة لتسلط إزاحي يطحن فيه القوي الأضعف منه حتى يمس ، فهو كالنار بل أشد وطأة منه في الحرق كما يقول المفكر الراحل عبد الرحمن الكواكبي.
التسلط الهدام
فكل دنية منه مثل الابتزاز و تقبل العنف و الأزمات السياسية و الاقتصادية و الأسرية فرع عن جذر وصفه أفلاطون بالنار التي تأكل الجسد “فتحرقه حتى النخاع “، مع توسيع أرسطو لآثار الطغيان و الاستبداد السياسي فضمنه هدم و انهيار المجتمعات بأسرها بتحويلها لما أسماه “متتالية العبيد “، و هي طبقية يزيح فيها المقهور قهره المكبوت على الآخر فقط لإنه أكله حتى حوله لمهدور، فبدلا أن ينفجر ذاتيًا يتحول لجلاد تنازلي من شأنه فقط أن يقبل كل الرذائل على الآخرين الأقل شأنًا أو مكانة منه إما نقصًا أو تفريغًا أو إخفاءً لعواره النفسي، مانحًا نفسه مشروعية قابلة للتصعيد حتى القتل مثل زوجة آية أو التعذيب في السجون و المعتقلات كصيدنايا و العقرب مثلما ذكر الدكتور مصطفى حجازي في كتابه الإنسان المهدور.
فعلى هذا الأساس الحقيقي، أكد الكواكبي في كتابه الصادر عام ١٩٠٢، أن الاستبداد السياسي تحديدًا أقوى من الماء في شدته، و أشد ذلًا و أحوج من السؤال، فأخذ الدكتور و الفيلسوف الكبير إمام عبد الفتاح الخيط منه لينسج منه كتابه الرائع الطاغية؛ ليؤكد للجميع حقيقتين تاريخيتين الأولى تكمن في التأكيد على أن الطاغية حكم أقلوي لا يريد إلا الحفاظ على المنصب أو الحياة المرفهة و حالة الاستقرار الفردية بشبكة من المنتفعين و المنافقين، و تأتي الحقيقة الثانية لتتبلور أمام أعيننا، باختصار شديد العيش تحته يهدم الفرد و المجتمع كما لو دخل حربًا ضروسًا .
فهذا القبول التسامحي أثار فزع و خوف المجتمع لإنهم تقبلوا العيش برضا توافقي حول ذلك الخوف المتجذر لثقافة متأصلة في نسيجه المتفكك من الأساس، مع تجليات واضحة في زيادة عدد الجرائم غير الأخلاقية.
و علاوة على ذلك، يبرر كلا من فرانك فوريدي و زيجمونت باومان الهروب النفسي و القمع المتوالي من الرأس للساق لخوفهم و توجسهم المبرر ذاتيًا و اجتماعيًا لأسباب باطلة كإكمال الحياة أو كذلك حماية النفس من الظلم أو الوقوع فيه لينتهي لتحويله النهائي لكائن منبطح أو مقموع من سلطة عليا، محققًا نبوءة جورج أوريل في مزرعة الحيوان حينما تحول المجتمع في الرواية لشلة من الخاضعين حتى انهار بالكامل بانتشار كل أشكال الدمار الشامل و الممنهج، عاكسًا مدى هشاشة و ضعف المجتمعات المعقدة و المتعددة بكل أطيافها لقبول بأن عدم العدالة و الظلم يمكن أن ينقذ و يكمل حياة دنيا تالفة .
بدأ الاستبداد بشكله الحالي تاريخيًا في عصور النهضة الإسلامية في العهد الأموي مع الفتنة الكبرى، و اقتتال الصحابة رضوان الله عليهم في بينهم، مما أدى لترسيخ فكرة الحكم العضوض الذي يعني باختصار شديد العيش تحت ولاية ممالك يورث بعضها بعض في الرأس حتى ينتشر الفساد و الطغيان و تسلم مملكة تالية إرث سابقة ، و هكذا دواليك في دورة حضارات التاريخ.
و ضمن العلامة ابن خلدون في مقدمته الشهيرة عوامل التقدم الثابت و الاذردهارية ومنحي السقوط الذي تتشارك الدول فيه آنذاك برؤية ثاقبة و نفاذة، يؤكد أن العامل الهدام في ذلك السياق الظلم المركب قائلًا عبارته الشهيرة الذي تفاخر بها الرئيس الأمريكي رونالد ريجيان عام ١٩٨٩ “الظلم مؤذ بخراب العمران “كافة ؛فلا حياة تكتمل به بل يسير من خراب لدمار، و من تلف لسلف و علق؛ تنتهي إما بزوال الظلم أو موت الفرد، و ثم بعده الدولة، ليتلفت له المنظرون الغربيون في علم الاجتماع منذ وقت قريب ، و على رأسهم الدكتور سيد نقيب العطاس أستاذ علم الاجتماع في الجامعة السنغافورية في ثنائيته عن ابن خلدون في كتابيه بعنوان “ابن خلدون” و “تطبيق ابن خلدون: إعادة علم اجتماع مهجور”.
يفرد العطاس في كتاب تطبيق ابن خلدون أربع أشكال من الدول كالآتي الدولة العادلة، و يتفصل فيها الخصائص الآتية، من الحكم بشرع الله الكامل، و تعزيز السلم الاجتماعي و إعمال العقل المبدع للتأليف و الإبداع العلمي، أما عن النوع الثاني الدولة العاقلة بمعنى أدق الدولة المبنية على نفس المعايير المتعلقة بدولة العدل مع اختلاف المرجعية المراد إليها القيم و الأفكار التمركزية لاستمرار الدولة لحين سقوطها المدوي فضلًا عن انهيارها العميق .
أما عن الحالة الثالثة فهي دولة البدع، و الخرافات التي تعدل وفقًا لعقيدة منحرفة ومنحطة تهدف لخدمة أهداف مخصصة مثل إيران حاليًا، و كذلك الفرس و الروم قديمًا، و ينتقل للنوع الرابع المتمثل في الدولة الهدامة، التي تهدم كل مجهود مواطنينها، و تجير عليهم حتى تقتلهم و تدفنهم تحت التراب، مفقرة إياهم و معذبهم حتى تكتب شهادة وفاتها الأخيرة بيدها، بانهيار شامل و جذري لا تصلح بعدها إلا بتغيير طويل الأمد ، مثلما حدث مع فرنسا العصر الحديث، و إيران الصفوية، و سورية العلوية .
عند الانتقال للمنظور التيمي في تشريح الظلم الطغياني ، فلا شك أنه اتفق مع ابن خلدون في عمومية الظلم و الطغيان ، لكنه اختلف في التصنيف الهيكلي لنوع الدول ، فأعاد تأصيل الأصول التفصيلية من أصول الفقه و الحديث، فقسمها تبعًا لذلك ل٤ أنواع ، و هي دولة الهوى و الشرع و العقل و العدل مع بعض التعديلات المفاهيمية و التمثيلية من السنة النبوية و القرآن الكريم ، بما فيها قصص الأمم السالفة ، فيعرف الدول الشرعية بأنها الدول التي تنظم حياة الأفراد عامة من أول النهار حتى نهاية الليل ، و الدول العقلية الدول التي تهتم بالأفراد وفق مرجعية العقلية و المنطق الرمزي و التطبيقي ، و بالنقيض للدولتين الخاصة بالهوى أو الطغيانية و هي الدولة الظالمة أفرادها و الهادمة لنسيجها السياسي و المصلحية لتقوضها بالأكمل .
بالإضافة لما أكده ابن خلدون عن خروج الدين من معادلة العمران و استمراره لإنه مشترك إنساني يتفق فيه جميع البشر و الكائنات الحية، فإن ابن تيمية رحمه الله لا يغدو عن المخالفة بالقول نفسه إلا أنه يزيد على أن الكفر للدولة لا يهدمها عند قرنها بالعدل و العكس صحيح في مقولته الشهيرة في كتابه النبوات بأن الله “يقيم الدولة العادلة و لو كانت كافرة، و هي معادلة حقيقة واضحة تلمس خيطًا شديد الارتباط و الالتماس مع تفاصيل الحياة الدنيا المتصلة بالعدالة الإلهية و الرحمة، فلا رحمة منتظرة مع مشهد قميء مصيره الوحيد الزوال إما للعبرة أو رحمة للعالمين من كثرة الخبث .
دأبت الدراسات الغربية على مدار أكثر من نصف قرن على تحليل عوامل الانهيار و الزوال على تخوم عدة مجالات لتغطي صورة شاملة عن أنماطه و أشكاله و آثاره المدمرة، فنتج عن هذا التشابك خروج معادلة ثابتة عما يسمى انهيار المجتمعات المعقدة، و يعني بها حصرًا أن المجتمعات المعقدة تسطح لتدخل بعدها في دوامة عسيرة من الفقر و العنف ضد الأضعف ، و صعود تتبعي للحيوانية و التوحش، و بخاصة مع نظم سياسية استبدادية كما في دراسة غاي ميدلتون بعنوان فهم الانهيار الذي أرجع عوامل الانهيار للاستبداد السياسي و الثقافي من خلال علم الآثار و التاريخ القديم .
حلل ميتدلون مجتمع روما القديم ليتضح أنه مماثل للمجتمع المصري حاليًا في أواخر أطواره من سلطة جبرية متغلبة على شعب إما مستسلم أو متحايل حمول للبلايا السوداء، مثل الشعب المصري في العشرية السوداء الأخيرة التي أثبتت عبثية النفاح معه، و إفهامه حقوقه الأساسية و البديهة لإنهاكه الشديد في العثور على لقمة متوفرة إجباريًا و لزومًا عند توافر شرطين بديهيين: الكرامة و الصدق في التغيير الجماعي، ليس النجاة الفردية التي أنهت و شرذمت مجتمعات بأسرها على غرار مجتمع روما و الإمبراطويات الإسلامية الظالمة.
يضيف أيضًا الأنثروبولوجي جوزيف تايتنر بعدًا آخر، يعكس مدى اتصاله الارتباطي ، العسكرة و السجن، فإذا كان المجتمع عبارة عن سجن مفتوح يرغب جميع أفراده بالهروب منه ، أو البعد عن الاستبداد السياسي والظلم ظنًا منه أن غير مموس منه والتسلط الهدام، في انفصام نفسي و انفصال تام عن الواقع، فضلًا عن اتساع الدائرة لتكوين تربة خصبة لمختلف الرذائل و الموبقات المذكورة سلفًا، و من هنا ينكشف البعد الجذري المغفل أو المعتمد إغفاله الكامن في التكاتف العضوي و التكافل الاجتماعي بعيدًا عن أصحاب الخطابات المؤدلجة الداعمة للاستبدادات التقليدية أو الأيدولوجية، حتى لا يسقط الوضع العام بدوي حر و متسارع عملًا بالنصيحة القرآنية التبين و اتباع الحق و الدفاع عنه للنفس الأخير ، رغم الثمن الكبير الذي يحتمل دفعه .
لهذا الدافع القوي نجد أنه من البديهي أن إكمال الحق و إظهاره من أسباب بقاء المجتمع و استمراره، و إلا سيتحول لكتلة من الصواريخ و البركان المشتعل و المتفخخ التي لا تحوطه غير الأخلاق المصلحية الهشة، ممهدًا الطريق لانهيار الواقع بأكملها لما “تغتال المعاني الصلبة “بحد تعبير رضا زيدان في كتاب أزمة الفلسفة الأخلاقية.