الترامبية الوراثية .. طغيان قد يكتب نهاية هزلية لقواعد الديمقراطية 

الكاتب مصطفى نصار

الترامبية الوراثية .. مظاهرات لا ملوك: الهيمنة الترامبية المستفحلة تتراكم لتدحرج كرة الثلج في الشارع.

بشكل متراكم ومجمع، هناك عدة مظاهر و عوامل تلعب بالاقتصاد الأمريكي والسياسة المحلية فتحولها لما أشبه بالدول الاستبدادية، على  رأسها الإغلاق الحكومي الذي استمر لشهر ونصف أكثر من أي فترة رئيس أمريكي آخر ما ترتب عليه خسارة فادحة في الاقتصاد الكلي كما يشير جوزيف بوريل رئيس البنك الفيدرالي الأمريكي نفسه بالفعل الذي كان معارضًا لترامب على طول الخط منذ إعلانه المشئوم عن التعريفات الجمركية في مارس الماضي، غير تأخر الرواتب الشاملة للعديد من الموظفين، و الوظائف الهامة بشكل مجمد.

فتلك اللعبة الاقتصادية احتكمت حينما أعلن ترمب عن ارتفاع الرسوم الخاصة بالتعريفات الجمركية المهنية التي وصفها أستاذة اقتصاد و اجتماع يمينيين مثل الكاتب تاكر كارلسون و مارجيت تايلور جرين و دانيال دنينز و غيرهم من التيار اليساري و الماركسي تحديدًا مثل مارك بليث و ريتشارد وولف ، الذين صارخوا من سياسة الترامبية الاقتصادية التي فككت جزء يسيرًا من الهيمنة الدولارية المسعورة على الكوكب بطريقة جعلت الذهب يحلق في السماء لمدة أسبوعين متواصلين مخافة لحدوث أزمة ” كبرى” مثلما حدثت في 2008 حينما ركد العالم و دخل العالم في أزمة مركبة استمرت عام و نصف.

فثمة السياسة كذلك ، وضعها لا يقل انحطاطًا أو سوءً عن الأداء الاقتصادي ، فقد رأوا بالفعل الحرس الوطني في الشوارع لأول مرة في الأزقة و الميادين العامة يمارسون ممارسات قمعية تتساوي مع الدول الاستبدادية و الأنظمة البوليسية القمعية ، ففي شهر يونيو قبضت الشرطة الأمريكية على 500 مواطن من أجل الاشتباكات المباشرة معهم ، ما جعل المحرر في الانترسبت  جونا فالديز اعتبرها ” أمريكا المعادية للمهاجرين و السليمة” ، حتى وصلوا الأمريكان لحالة مأساوية حقيقة في التفرقة و الطغيان وصولًا لتعديل المادة 22 من الدستور التي تعطي لترمب الحق في الترشح للمرة الثالثة و احتمالية الفوز المجدد و ” المؤكد” بحسب هوارد فرنش خبير السياسات الدولية و الأستاذ للعلاقات الدولية في جامعة نيويورك .

فكون ترامب نوعًا من المكارثية الجديدة التي لا تفعل شئيًا غير التخوين المقصود و المعتمد بالفعل و الإقصاء الشامل و الفج مثل ردود المتحدثين الرسميين للصحفيين المرسلين الخاصين بالبيت الأبيض و وزارة الحرب بلفظ ” أمك ” ما يعني وجود غطرسة في التعامل الرسمي حتى مع مراسلي الحقيقة الواضحة الذي هدفهم ، افتراضًا ، الوصول للمعلومات ، فتضيق صدورهم مثلما حدث و يحدث دوريًا من حقوق أصيلة و عزيزة للغاية و تاريخية ، ما جعل الفاشية الداخلية هي التي تتحكم بمفاصل الدولة الحرة ، و عراب ديمقراطية و حقوق العالم الحديث .

و بناء على هذا التهديد ، نزل 7 مليون أمريكي للشوارع في عدة ميادين عامة و كبرى كالتايم سكوير و ميدان كاليفورنيا و غيرهم مكونين حالة قوية و صارمة من الضغط الشعبي على الحكومة اليمينية المتطرفة بشكل فعلي و محرك بقوة للأمور ، فما إن رد عليهم ترمب بفيديو وقح ، و هو يصب القاذورات على أدمغة المتظاهرين مع الطائرة في تحد فريد و استثنائي لم تحدث حتى في عهد نيكسون المعزول بفضيحة مدوية متمثلة في ويترجيت ، ما يطرح أسئلة حيوية بالفعل و حرجة حول استمرار الديكتاتورية و أصل الديمقراطية في أمريكا .


الديمقراطية المعكوسة أو الديكتاتورية المنضبطة 

من خلال الدراسة المطولة للسلطوية الأمريكية التي أعدوها أستاذي العلوم السياسة ليكوان وي و ستفيان ليفيسكني تحت عنوان لافت ” المسار السلطوي للولايات المتحدة ” ، أوضحا فيها أن ترمب يؤصل بالفعل و بشكل قاطع و قوي أن دونالد ترمب ” بخلاف الانتماءات السابقة و الثابتة لمسارات السياسة الأمريكية ، فإن يؤسس لسلطوية شعبوية ممتدة ” و لعلهم يقصدون هنا في وقتها التعريفيات الجمركية و نهجه الصريح حد البذاءة الأخلاقية في السب و القصف و دعمه شبه المطلق للديكتاتورين و الطغاة مثل بوتين ،  و الأهم من ذلك إجراءاته التعسفية ضد داعمي القضية الفلسطينية أو روسيا على السواء . إنه تجسيد الديكتاتورية الحاسمة و القاسية في أبسط صورها .

و يعزز تلك الديكتاتورية العديد من المحفزات التي تجعل ترامب في حالة من الغطرسة التي تقول في نفس الوقت عما يكمنه عقله و تنطوي عليه مثلا تجاه الديمقراطيين ، و الشباب الذين يرون أنه ” بلا مسؤولية أو رؤية حقيقة ” ، و هذا ما دفع الصحفي المسلم مهدي حسن لاعتبار ترمب و حملاته الدعائية عن السلام هدفها فقط نوبل للسلام ، و شوقه المشتعل المدفوع بالتمثيل المبتذل الحقير ، فترمب بهذا المعنى هو في حرب مع مفهوم الاختلاف و حرية التعبير المبني عليها منظومة القوانيين كلها ، ما يجعل الدستور هامشيًا بدرجة عميقة .

و يسعي من خلال تعديل الدستور ، لتغيير المادة ٢١ منه لتمديد الفترات الخاصة بالحكم بشكل متنامي و على غرار الدول الاستبدادية و القمعية بحق ، فضلًا عن إطارات مرجعية بقوة و عنصرية منقطعة النظير و غير مسبوقة في السياسات المتعلقة بالأمن القومي و الهجرة و غيره من الأمور الحساسة و الحيوية منها النسف التام لفكرة التجارة الحرة ، و تعيين مستشارين كبار يتسمون بالتذبذب الدائم و التقويض المستمر لأمريكا ذاتها ، بحجة الواقعية السياسية الراهنة !!

قد انتقد أستاذ العلوم السياسية ستفيان والت تلك الفكرة غير العقلانية و المليئة بالأغاليط النابعة من حقيقة واحدة ، ألا و هي ترامب و فريقه لم يمارسوا المدارس السياسية ، و بارعين حقًا في الاصطدام الصلب و العنف الشامل فقط من أجل الطاعة ، و أي طاعة تخالف “الواقعية السياسية ” هي بالضرورة “راقصة بذاتها على السلطوية”مثلما يؤكد الأستاذ الفخري للتاريخ في نيويورك دانييال آيموجوور في كتاب كيف تخفي إمبراطورية،  حيث يسرد بمنتهى الاختزال فكرة وحيدة كاملة متحمورة حول تاريخ الولايات المتحدة نفسه ألا وهي الرد العكسي التي جربت مع نيكسون و بوش الابن و الاب و نتج عنها فشلًا ذريعًا و سقوطًا مخففًا .

مع ذلك ، يربو ترامب بالمشكلة الأساسية في المظاهرات الحالية من دون حل حقيقي سوي السخرية و البذاءات ، فضلًا عن الاتهامات الفارغة التي فككت أصل فكرة المعارضة،  و قراراته المريبة  و المتقلبة بشكل سريع و متحول و مفاجيء قد حول الرأي العام كاملًا ناحية الديمقراطيين ، لإنهم ليسوا بحاجة حقيقة أو حتى لمحة بسيطة لإكمال اللعبة الكبرى ، و التي ستحول الولايات المتحدة لجمهورية فايمار النازية ، فضلًا عن خسارة الملامح المميزة و العلامات التي طالما كانت محط فخر و اعتزاز دائم على رأسها الحرية العالية و عدم استخدام القمع البولسي.

التاريخ المكرر لفايمار ….ترامب باعتباره فاشيًا جديدًا !!
 
فمع إنزال الحرس الوطني عدة مرات متتالية للشوارع ، تحول هذا المؤشر الجاد و المأزوم لما يشبه المؤقت “قبل انفجار القنبلة “مثلما أكد أستاذ علم الاجتماع و الإجرام آلن بلير ، دافعًا الأمريكي نفسه لاعتبار حكومته أنها تتصرف بعقلية فاشية ، بعيدًا عن أي ميول منحرفة أو حريات مزعومة ، أي ترامب يسحق حقوق الأمريكان ببطء و روية و سرعة مدهشة ليغير أوراق اللعبة كلها ، من دولة متصدرة العالم ، لدولة مهووسة بكل كلمة اعتراض و نقد للحكومة و الرئيس ، ما فسره الأستاذة و الكتاب من أمثال الباحث و المؤلف مارك لينش حول جزء صغير للغاية من اتفاقية وقف إطلاق النار في روسية و غزة بأنها “وهم ممتد مستمر في عقل ترامب لكافة الاتجاهات”.

و كذلك يشير الأستاذ الفخري في العلوم السياسية تيموثي سنيدر في كتابه ” الطريق إلي اللاحرية ” لتلك المغامرات المجنونة و الجولات العبثية لترمب في الولايات المتحدة ، من الاقتصاد و الأمن و الإقصاء الممنهج لمن نزل في المظاهرات على وجه التحديد ليتحدوه ، فهي رسالة بسيطة للغاية مفادها ” لن نسمح بتقويض ما أسس على عشرات السنين ” في ترسيخ الحالة الديمقراطية و تحمي البلاد من تكرار مآسي جمهورية فايمار التي تلتها تباعًا النازية . و من ثم ، وجدت ألمانيا نفسها في “مهب الرياح” نتاج الإهمال الجسيم و الامبالاة السياسية ، فضلًا عن تطبيق مفاهيم و تطبيقات جمهورية فايمار بتطابق عجيب .

ومن هذا المنطلق ، يهدد هذا الشعبوي بإرهابه الفكري كما اتفق دانييال زبيلت أستاذ علم السياسة في هارفارد مع الصحفي المختص و البارع  أوسكار ريكيت في فترة ترامب الأولى في مقال رأي له على موقع ميدل إيست آي البريطاني أنه لا يتمتع بأي ” مبدأ ثابت ” قادر على الالتزام المستمر و الانضباط به ، متشابها مع الجمهورية الذي أسست فيها النازية مبدأها على فكرة ” الرجوع للمجد و العظمة الألمانية ” بعقلية غير ممارسة مثل هتلر و شولتز أو عقلية مزاجية متقبلة يجد فيها المرء نفسه مثل الجندي المنفذ أو العامل المنضبط بدقة المعنى ، أي أنه يصبح جامدًا مقهورًا غير فاعل ، و فوق كل ذلك مقلص الدور و مخدوع.

فأمريكا بهذه المنظر المخزي لها على جميع المستويات هي بالأساس واقعة بين حقيقة الفوضى و العشوائية و العقلية الاستعراضية ، و بين وهم العظمة و القوة و الأمجاد فلا نالت الأولى و تسير على طريق الانحدار الحقيقي الذي سيؤدى بالضرورة لخلخلة أسس الدولة الأمريكية ، فذلك البرتقالي يهمه فقط المظهر الخارجي و اتمام الصفقات السريعة ، أو كما قال عمدة كاليفورنيا نيم سالينز عنه :”سياساته عبارة عن بيانات صحفية”، من دون رؤية واضحة أو فكرة حقيقة طويلة الأمد مثل المقاول الملول الذي يود إنهاء صفقة معطلة ، لكن تلك الصفقة هي المستوى المتدني لكافة الخدمات المالية و المصرفية و الاجتماعية العامة .

فتشتمل محصلة المشهد اليوم على قيصر أمريكي جديد يود امتلاك “الثورة و السلطة لنفسه “حصرًا من دون حتى تكلفة نفسه عناء البحث و التجربة ، فالمهم كما قال دونا زويكنبرج تمركز النفوذ و السلطة في يد أصحاب الولاء و الطاعة ، و لعل هذا ما جعل الفيلسوف الأمريكي و المناضل الافروأمريكي كورنيل ويست يصدق حينما قال أن ترامب “يهندس أمريكا جديدة” قائمة على نفس مواصفات فايمار التي سقطت صريعة لبراثن قمعها و منظومتها الساقطة و تعاظم دورها لحتى التفكك التام .

Related posts

زهران ممداني ..جيل زد والقضية الفلسطينية والمهاجرين “نيويورك الجديدة”

الذهب الصيني الصلب النقي: ابتكار استثماري بعيار 99.9% يغير قواعد اللعبة في صناعة المجوهرات

فيلم سينمائي أمريكي يثير غضب البنتاجون