التافه بطل قومي .. كيف صنع الإعلان نجوم التفاهة “التريند أهم من الحقيقة”

كتبت: زينب النجار

في زمن يزدحم بالتحديات الأقتصادية والسياسية والاجتماعية، يُفترض أن يكون الإعلام هو العقل الواعي للمجتمع، المرآة التي تعكس قضاياه، والصوت الذي يطالب بحقوقه. لكن ما نراه اليوم مختلف تمامًا؛ فقد تحول جزء كبير من الإعلام إلى مُهرّج على مسرح التفاهة، لا يهمه وعي الناس بقدر ما يهمه أن يحصد نسب مشاهدة، حتى لو كان الثمن هو تلميع السخافة وصناعة التريندات الوهمية..

 

فأصبح المشهد الإعلامي اليوم أسيرًا لمواقع التواصل الاجتماعي. فإذا ظهر فيديو لشخص يوزع أموالًا في الشارع أو خناقة مفعلة بين مطرب ومطربة ، شخص يُمثل الكرم أو الخير أمام الكاميرا، فيُكرّم ويُحتفى به وكأنه بطل قومي ، أو لشخص يرقص في الطريق، تتسابق القنوات لاستضافته وكأنه “قضية رأي عام”

بينما في المقابل، حين ينهار مبنى على سكانه، أو يحرم آلاف الطلاب من تعليم محترم، أو يصرخ مريض يبحث عن دواء غير موجود.

 

لماذا لا نتحدث عن هروب الأطباء للخارج؟

لماذا لم نتحدث عن ملف التعليم الذي أصبح مجرد أوراق وامتحانات بلا قيمة؟

لماذا لم نتحدث عن البطالة وطابور الشباب العاطل للبحث عن عمل ؟

صار الإعلام يتعامل ببرود أو يتجاهل المشهد تمامًا، فأصبح التريند أولاً والقضايا أخيرًا …

وأصبح التريند أهم من الحقيقة، وصار العنوان الصاخب أهم من المعلومة الصحيحة. الإعلام الفاشل لم يعد يسأل كيف نحل أزمة الصحة؟

كيف نطور التعليم؟ كيف نفتح باب أمل للشباب العاطل؟

بل يسأل كيف نصنع مشاهدات أكتر؟

كيف نصنع شو ليتحدث الناس عنا؟

والمؤسف أن الجرائد الإلكترونية الشهيرة، التي كان يُفترض أن تكون منابر للمعلومة الدقيقة، انزلقت هي الأخرى إلى نفس المستنقع ، وأصبحت صحافة بلا أعلام ،صرنا نرى تلك الصحف تتسابق على نشر أخبار التريندات، لا لشيء سوى جمع “اللايكات” والتعليقات، وزيادة نسب المشاهدة فقط لا غير..

لم يعد يهمها أسمها ولا سمعتها ولا تاريخ الصحافة العريق الذي بُني على أحترام القلم والكلمة الحرة ، بقدر ما يهمها أن تتصدر “الترند” بأي خبر، حتى لو كان تافهًا أو غير مؤكد….

فالصحافة كانت رمزًا للأحترام والمصداقية، لكن مع عصر التكنولوجيا وسرعة السوشيال ميديا، ساء المفهوم، وصارت الصحافة في كثير من الأحيان مجرد نسخة أخرى من “المحتوى السريع”، بلا عمق ولا مهنية، أصبحت صحافة صناعة الوهم وتلميع اللا شئ

أخطر من التفاهة: تغييب الوعي

الخطر الحقيقي ليس في التريند نفسه، بل في أن الإعلام يغيّب وعي الناس تدريجيًا.

حين يتعود المشاهد على أن كل ما يُعرض أمامه هو لهو وعبث، يفقد الحس النقدي تجاه القضايا الكبرى. حينها يصبح الحديث عن مستقبله أو حقوقه شيئًا ثانويًا، بينما يتعامل بجدية مع قصة مختلقة أو تريند فارغ.

الإعلام ليس وسيلة للترفيه فقط، بل أمانة ورسالة. الإعلام الحقيقي يجب أن يسأل السلطة عن تقصيرها، أن ينقل صوت المظلوم، أن يكون منبرًا للعلم والمعرفة لا منصة للتهريج.

لكن حين يُباع ضمير الصحافة على أعتاب الإعلانات والمشاهدات،. وحين يُصبح “التريند” أغلى من الحقيقة،. فأننا أصبحنا أمام إعلام خائن لرسالته.

فالإعلام الذي يرفع التافه إلى مرتبة البطولة،. ويتجاهل المبدع أو المكافح،. هو إعلام لا يصنع مجتمعًا واعيًا،. بل يصنع جيلًا تائهًا، يُصفق للتفاهة ويغفل عن جوهر قضاياه.

والحل ليس في الإعلام وحده، بل في الجمهور أيضًا: لا تمنحوا التفاهة قيمة بالمشاهدة والاهتمام.

فالإعلام لن يتغير إلا حين يدرك أن الجمهور صار يبحث عن الحقيقة، لا عن الوهم.

كاتبة المقال

أ/ زينب النجار

Related posts

كلمة بتفرق”.. برنامج إذاعي جديد يناقش تحديات المراهقة وأهمية الحوار الأسري

هل يجوز نحتفل بالمولد النبوي.. بالعبادة والذكر والفرح “الإفتاء تُجيب “

الشائعات في عصر التواصل الاجتماعي : تحديات وفرص وطرق التعامل معها ومواجهتها