البهائية القانونية في مصر :تاريخ الاستعباد القانوني منذ قيام الجمهورية
ما بين الاستثناء و نقضه:الحقيقة القانونية المذابة التي قد تقتل مجتمعات بأسرها .
كتب:مصطفى نصار
عادة ما يوجد نمط ثابت و موحد عند رؤية القوانين ووظائفها و أنمطاها ، و الأهم من ذلك دوره ووظيفته التنظيمية و التراتبية ، التي قد تختفى لعدة عوامل مهددة بالسيادة و السيطرة و روح القانون
لإيضاح الصورة و تبسيطها ، يتميز القانون بروح واضعيه أي كانت خليفته القانونية الوضعية أو الدينية أو الاجتماعية ، لكن على كل حال القوانين مرآة للحكام و القضاة ، و به توحد المجتمعات أو تهدم بشكل يصل حرفيًا لوضعية السجن أو تحوله لطوق استبعاد مهين و مرعب في أحيان أخرى ، مخلفًا بذلك حالة استثناء قانونية و سياسية تتأرجح بين الفقد الخارجي لها ، و شطنية الداخل المخالف لتلك السيادة العرجاء . إنها سيادة بهائية جديدة تجير بفرض ذاتها من أعلى رأس الهرم لأسفله ، لتترك بذلك سؤالًا جوهريًا مكمنه إن كانت السيادة مخلخلة و مختلة و نافية لذاتها أو على النقيض تمامًا في حالة الدول الديمقراطية، فهي تتميز بالتناقض الصارخ حتى في الداخل لإنها لا تمثل إلا نخبة حاكمة مهيمنة .
و كما أن حالة الاستثناء و نقيضها ، وفقًا لجورجيو أغامبين تنتفى تمامًا مع نموذج القوانين المصرية المرصوصة رصًا و على رأسها اة، و التي تحولت لمصدر للجدل المفيد و المثمر الموضح أن السيادة للسيطرة ، و الحرية وهم و العبودية طوق .
و عند آخذ مثال بعيد عن التأريخ المصري ، فمن الموضوعي قول أن شميت و بورش بالإضافة لبعض أكاديمين النازية المرموقين كرونالد روزنبرج و الذي بات ينظر بحتمية الوضع القانوني من الحالة الأصيلة للمجتمعات عبر تاريخها لعكس المعادلة لتخرج للعلن معكوسة ، مقلوبة على مستوين أن الجيش النازي آنذاك مرتزق ، و السياسي النازي بإقصائه للآخر و المجتمع يصنع إنجازًا في منتهى الحكمة و الرشد ، دون أن يعرفوا أو بتجاهل معمتد أنهم معول هدم بطيء المدى للمجتمع، لعدم إشراكهم إياه في تحديد علاقاته التنظيمة و الدستورية و تفضيل استخدام أساليب جوبلز لغسل الدماغ و الإعدامات و إلغاء المجالات العامة .
و استمرارًا لسياسة الحقد الوحشية التي تندح بها النازية ، استقبلت خبر هزيمة الحلفاء في الحرب العالمية الأولى بإعادة بناء كامل للحزب على أسس نظامية صارمة تقترب من المعدلات الحسابية ، مما أدى لجني أول ثمار ذلك التنظيم الهيكلي المتميز بتكوين حكومة فايمار عام ١٩٢٠ أي قبيل اشتعال الحرب العالمية الثانية بحوالي ١٦ عام مما أدى لتكثيف الجهود لتحويل ألمانيا بأسرها لسجن مفتوح جدرانه تنتهى بحدوده ، و تدوي بالسقوط الحر الذي دفعه المجتمع بأثمان مضاعفة و باهظة عن سلطته القانونية المكونة من ضباط و أمراء و نخبة بيرقيراطية فاسدة وصل تصور الاستحقاقي المثالي لدرجة أن المخالفة في حد ذاتها جرم ، ووصلت لأعلى دركاتها عند وصول الفاشية إيطاليا و أسبانيا لتكتمل السياسة الأوربية في أوضح و أجلها رؤية ، أو في لحظة نموذجية من التاريخ.
و لهذا السبب تربط تلك البهائية القانونية و السياسية بتواجد و جريان المياه و دورانها في أروقة المجتمع، لإن مثلما يشير هانز فينر مولر في كتابه “ما هي الشعبوية؟”و نعوم تشومسكي في كتابه الدولة المارقة أن نتيجة المجتمعات المستعمة و المنفذ لشعارات الشعوبية و الاستبداد إما اقتناعًا أو إكراهًا ، فمصيرهما التقويض المتسارع و المدوي مشمتلًا كافة الأصعدة المختلفة . فتنتهي المجتمعات و تندثر بتلك البهائية من الأعلى و تتبلور في فترتي اللبيرالية و الحالية في خروج متسارع و متحيز و متعجل لزيادة صلاحيات هيئات على حساب أصل المجتمع ألا و هو الفرد .
من قانون الإصلاح الزراعي لقانون الانفتاح الاقتصادي:حينما يتجسد شيرلوك قانونيًا في مصر.
في كتابه خطر السياسة و سلطة القضاء ،ينوح القاضي و القانوني الأمريكي ستفين براير منحى تدريجيًا فيما يتعلق بعلاقة السلطة بالقضاء عامة و القوانين خاصة ، منتهيًا بنتيجة مفادها أن استفحال الدولة خطر وجودي على عدة قيم دستورية جوهرية ، و من ثم تنتقل للمجتمع نفسه ، و خاصة في القوانين المتعلقة بالجوانب الاجتماعية الحساسة .
و لعل التجسيد الحي لتلك الحالة السالفة في كتاب براير تمثلت بوضوح بمسرحية تاجر البندقية لشكسبير في بطلها المرابي الجشع شيرلوك ،الذي كان يطبق الربا على الناس بمجرد تحكمه شرعيًا و سياسيًا بجزء يمس مال الأشخاص . فحول حياتهم لجحيم حي و اضمحلال اقترب من درجة الزلزل المدوي عليهم ، بل تخطى الأمر عند موت غريمه أنطونيو الذي طلب من جميع السكان رطل من لحم جثته الميتة بعدما تأكد من موته ، حرصًا على عدم تكرار ذلك منهم ، و كذلك إمعانًا في عبودتهم و ذلهم العميق .
و كما أن شيرلوك واجه عوامل تشويه و تجريف كونت عنده نية كراهية و بغض لديه تجاه الجميع مما أمنع و حرص على تنوع ألوان الغبن و القهر ممزوجًا بالقمع التجريسي و الذرائعي بأن مالك القانون أو كما قال المحلل النفسي ملادن دولار أنه لا وقت إلا لشيرلوك إلا “لصنع إزاحة نفسية بغرض الانتقام على الجميع”، منتهزًا منصبه القانوني و الرسمي .
و يتجلى المثال الأبرز في تلك الحالة في قوانين الإصلاح الزراعي و الصناعي في عهد الرئيس الأول للجمهورية العسكرية في مصر ، فأنهى بذلك فائدة الزراعة و جداوها في مصر ، و اتخذ الحراك الاجتماعي أنماطًا معتدمة على التنقل بعد نقل الملكية من الملاك الارستقراطين للدولة ، مما غير أنشطة و أنواع المحاصيل و الأنسجة المزروعة ، مما
نقده أساتذة علوم سياسية كبار بهذا القرار مثل نزيه الأيوبي في كتابه الدولة المركزية في مصر حيث اعتبر أن تنقل الزراعة للركود و الاندثار باب من أبواب “تمركز الدولة حول الأفراد و تحديثهم “، هدامًا بذلك عدة ثوابت منها القطن طويل التيلة و القضاء على حقوق الفلاح و العامل معًا بمسخ هوياتي .
و ظل الوضع كما هو مع إعدام صحفيين و عمال و فلاحين مثل سيد قطب و محمود محمد و مصطفى البقري و محمد مصطفى خميس لاعتراضاتهم المشروعة إما للتنحي أو زيادة الأجور ، لكن القانون أو بالأحرى حاكمه و ممسكه أبى إلا أن يعكس صورة شيرلوك لنفسه على أرض الواقع ، مع عدم هرب السياسات الخارجية للدولة من يده فخاض حرب اليمن نكاية في السعودية و إخراجًا لبريطانيا من أرضها بقانون صدر من مجلس الأمة و الشورى آنذاك مسببًا إبادة جماعية عنيفة وحشية في اليمن عام ١٩٦٢ م.
ووصلت درجة الوحشية و الطغيان بعبد الناصر وقتها للتخلي أو إعدام حتى مهندسي القوانين الذين صدقوا مجلس قيادة الانقلاب العسكري (ثورة ١٩٥٢)وقتها ، فلقن الفقيهين الدستورين عبد الرزاق السنهوري و علي ماهر بقتل الثاني بعد نفيه لسويسرا و حشد الجموع لدوس الأول على وجهه لينتهى مكلومًا مقهورًا على مسيرته القانونية الدستورية المرموقة . و هكذا نصب جمال عبد الناصر نفسه ملكًا على مصر محل فاروق ، و أنهى الحقبة السياسية و روح القانون ، وفقًا لطارق البشري و محمد الجوادي في كتاب “علي ماهر و نهاية الحقبة اللبيرالية في مصر “، حتى احتلت إسرائيل سيناء في نكبة العرب الثانية عام ١٩٦٧ .
و إن الربط التاريخي بين النقض للاستثناء القانوني للقمع و الهدم الذاتي ما يسمح للوقوف الزمني و رجوع البوصلة لصالحها و الأمور للحظة الطبيعية فيها ، أو كما يقول المنظر الفرنسي القانوني مونتسيكو حينما أكد أن فساد الشرائع يحتاج إما لإصلاح فوري أو هدم كامل . و لعل ذلك الهدم هو ما تأكد بعد عزم الرئيس آنذاك تنحيه ، لحين تمثيله و تملقه للناس بأنها تريده عن اقتناع و تأييد له ، فقام بعقاب أصدقاء الأمس المشاركين له في الفساد و الإفساد مثل عبد الحكيم عامر ، و وزير العدل في ذلك الحين عصام حسونة في كتابه شهادتي عن ثورة ١٩٥٢ الذي اعترف أن العدل مفصل على مقاس الرئيس ، و عين قادة جدد على ذلك الأساس بحجة مخالفتهم الصارخة و فسادهم و احتلال البلاد ، و تلفيق قصة مقتل عامر بحجة انتحاره .
و تنتهى قصة قانونية عبد الناصر بعد توريط مصر و ذوبان هويتها مع مسخ كامل للاقتصاد و إصابة المجتمعات العربية كافة بالصدمة و الذهول و فقدان الثقة ، بالإضافة إلي رغبته في القضاء على أي نية حقيقة لخوض الحرب ضد إسرائيل لما لها من مكانة خاصة ، و لكن قوات الجيش رفضت تلك القصة من الأساس و خاضت حرب الاستنزاف المستمرة ٣ سنوات لتوريط العدو الإسرائيلي و حسن دراسته الجيدة من جميع الجهات ، لحين تولى السادات مقاليد السلطة في نوفمبر ١٩٧٠ م باختيار أغلب قيادات مجلس القوات المسلحة لتدخل البلاد في وضع قانوني أسوء من ذي قبل بمراحل هيكليًا و اجتماعيًا و اقتصاديًا.
فبعد انتصار حرب أكتوبر ١٩٧٣ ، توجه السادات لأحد أسوء نماذج القانون البذئية و المقسمة طبقيًا و اجتماعيًا بطريقة جعلت العلمانيين نفسهم يحذروا منه ، مثل الدكتور الكبير حسن حنفي في كتابه الدين و الثورة في مصر ، و الصحفي الكبير أحمد بهاء الدين بقوله “انفتاح السداح مداح”، باتخاذه القرار الخاص بالانفتاح الاقتصادي الهادم لعدة عوامل ومبادئ أساسية و جوهرية كالترقي الاجتماعي عن طريق التعلم ، أو العمل كموظف أو اللحمة الاجتماعية و الجماعية التي تهتكت بكلية و تمركزية متسارعة نحو مواضيع و مراكز جديدة مثل الانضمام للطبقات القافزة على أكتاف المجتمع ، و حركة السوق و عقود العمل ، و الإصلاح الصناعي و المسخ العمراني بفكر حسب الله الكفراوي .
و كما نقل السادات وضع العمال و الأطباء و المدرسين لوضع جديد من الغبن المزخرف بإغراق السوق بالسلع الأمريكي ، و اعتبار أي معارض للدولة الرخوة الخاصة تهديدًا أمني و مجتمعي ، حتى أطلق على أول ثورة للجياع في سبتمبر ١٩٨٧ لقب ثورة الحرامية .
و تشابه كلاهما في نزع الأنسنة و تحويلهم إما لتهديدات أو تصنيفات معدية لأيدولوجيا الدولة مخلفين بذلك تركة ثقيلة سيكملها مبارك و القوانين الحالية بسلسلة من الزلازل المدوية ستفقد مما بقى من استقرار المجتمع و ثبات الأخلاقي و الديني ، و تركه أمام قنبلة موقوتة بخيارات أسوءها مر و أحلاها قمعي .