اليوم زُفر إلينا خبر نجاح عملية طوفان الأقصى التي يُعد لها منذ شهور ونتيجة لذلك أعلنت إسرائيل أنها في حالة حرب و مستعدة للمواجهة , ناهيك عن ذلك ، فإن هذا يعد أقوى رد منذ الانتفاضة الثانية عام 2000م و الثالثة عام 2015 و 2016م. فسرعان ما يفاجئ الفلسطينيون الصهاينة بعمليتها النوعية و الخطرة عليهم بأبسط الإمكانيات و الأدوات و تزيد حالة الارتباك بالعمق الاستراتيجي الإسرائيلي. غير ذلك ،فإن تعمل على زعزعة مزاعم الاحتلال الخاصة بالهيمنة الصهيونية على الأقصى ،بل و فلسطين كلها.
كشفت العملية ضعف الكيان الصهيوني و هشاشته البنيوية ،و يكشف هذا أيضًا عن عوار وعود و مزاعم و مراهنات الاحتلال من سنة 1973 حتى الآن. و تتعلق هذه المزاعم دائمًا بإظهار قوته و عدته لتخويف و زعزعة استقرار الشخصية العربية. و مزعم خط بارليف الذي يحتاج قنبلة نووية ليس ببعيد ،و هذا يمر بعدة مزاعم أخرى أهمها عدم قدرة المقاومة على اختراق القبة الحديدية. فبعد اختراقها, دب الرعب في نفوس حكومة يائير لابيد حتى إن بعض المحللين الفلسطينيين كمنير شفيق اعتبر أن لابيد فشل فيما جاء لإتمامه و أن هذا “تطور هائل ” في النضال الفلسطيني .
ويبرر ذلك حرص نتنياهو في أكثر الحكومات تطرفًا في الكيان على تأكيد رسالتين. أولهما هو حرصه الدائم على بيان نجاح نتائج قطار التطبيع بدءً من مصر وانتهاءً بإغراء و ابتذال السعودية بعقد برنامج نووي سلمي مع إيران . و تتخلص الرسالة الثانية للحكام و الشعوب معًا في أن إرادتكم و شخصياتكم مرهونة ببقاء إسرائيل. و ما لبثت الرسالتين أن سقطت سريعًا أمام كل عملية تثبت بنفس السرعة أنها صارت هواء و نُفثت كالرماد الأسود .و ينهي جزءً كبيرًا من الدعاية الإسرائيلية بالمظلومية و إرهاب الفصائل الفلسطينية لهم.
من قواعد الحرب الأساسية التجهيز الداخلي ،لإنه على وجه التحديد من أهم العوامل المؤثرة في الحروب . فمنذ سن تزو ،ما شهدت دولة انتصًارا إلا إذ كان عمقها قويًا تجعل من أبسط الإمكانيات أداة للنصر و رعبًا للعدو . و تثبت حرب السادس من أكتوبر /تشرين الأول هذا الإعجاز. فيتضمن التجهيز منها بلا شك تمتع المرء بقدر يسير من الحرية و الإصرار و العزيمة التي تكفي لهدم أسطورة كانت ذائعة الصيت كالجيش الذي لا يُهزم . فقد هزمها سعد الدين الشاذلي بخطته “المآذن العالية ” العبقرية، و التي جعلت كليات الحرب و على رأسها جامعة تل أبيب تدرسها و تعلمها للطلاب . فبناء على ذلك ، تنتج الشخصية القوية نصرًا و تزكيه كما أكد ذلك دكتور حامد عبدالله ربيع.
كما يتميز “طوفان الأقصى “بنجاحه اليوم بإعادة هيكلة و بناء الشخصية العربية و الإسلامية نفسيًا و تزويدها بالصلابة اللازمة . و تلك الرسالة ضمنها جوزيف مسعد في إحدى كتبه ، و مفادها أن القضية العادلة هي ما تثبت الأقدام حتى مع الخذلان الظاهر من حكومات الدول العربية . وهذا ما اختلفت فيه حرب أكتوبر عن عملية طوفان الأقصى فيما يتعلق بنتائجها العملية وعدم التنازل مقابل حفنة من الأموال و بقاء صوري لقطعة أرض رُويت بالدماء.
يقع التشابه هنا في الظروف المحيطية بالبلدين ، فهو أهم و أخطر المحاور من حصار غزة و قلة امكانيتها و عدم وصول المرافق العامة لبعض المناطق بها و تهريب المخدرات منها عبر المعابر المصرية و الأردنية . فما يميز النتائج الخاصة الجوهرية بين أكتوبر و عملية اليوم ،أي طوال خمسين عامًا ، لم تمس الفصائل في غزة على وجه التحديد ما حدث مع منظمة التحرير الفلسطينية بدءً من المفاوضات و انتهاءً بعقد “الاتفاق الكارثة ” في أوسلو في 23 سبتمبر/أيلول 1995 . فلن تمس الفصائل أي من تداعيات أوسلو الكارثية فيما يتعلق بالشق الأمني على وجه الخصوصية لإن هذا الشق هو ما جعل التواطؤ سهلًا مع منظمة التحرير تحت مسميات خادعة “كالتنسيق الأمني “.
بالنظر لجغرافيا العالم السياسية ،فإنه من الملاحظ أن الجغرافيا أصبحت لاعبًا أساسيًا في وضع سياسات الدول من زراعة و صناعة و اقتصاد . وهذا يجعل من يتحكم بها كمن يلعب بالدول . فهي لا ترتبط فحسب بالدولة كمحيط سياسي ، بل تمتد لتحيط بالإقليم بحاله . و يتضح هذا من خلال كتاب تيم مارشال الذي سعى فيه لوضع أسس للجغرافيا السياسية الحديثة. فالجغرافيا سجن للدول الحديثة تدور في إطارها و تؤثر على تصميم المجتمعات و ثقافتها و نمط عيشها . ونتيجة لهذا ، وضعت الجغرافيا الحديثة أسس النظام الدولي سياسيًا و اقتصاديًا.
و هذا يطرح معضلة أخرى فيما تتعلق بالجغرافيا السياسية للكيان الصهيوني بذاته ، وتكمن المعضلة باختصار شديد فيما يطلق عليه “جغرافيا النواة” . و يقصد بجغرافيا النواة هنا هي ارتكاز إسرائيل هنا على أرض فلسطين باعتبارها مركز داخل الأراضي المحتلة . فإسرائيل هي أرض فلسطينية من الناحية الفنية ،وهذا سبب كافي لإلحاق ضرر كبير عند كل تصعيد نلاحظه في فلسطين. و ليس هناك أبلغ من القصف الحادث لبئر السبع و غزة الذي نجم عنه أكثر من 1200 شهيد في أقل من ساعة !!
و المعضلة الثانية هي “جغرافيا الغلاف ” ،و هي ترتبط بالتمركز حول المدن و بداخلها لتكوين غلاف رقيق ،فيتكون ما يشبه الاحتلال الناعم الذي ذكر في أدبيات ما بعد الاستعمار. ومن أشهر تلك الدعاوي هي تلك التي يطلقها أصحاب أجندات العولمة فيما يتعلق بالتهدئة و حل الأزمة على أساس حل الدولتين .وصفت الفصائل تلك المعضلة لصالحها عبر استخدام أدوات صعبة التعقب جويًا ،ويلوح هذا بالخفية التي تمكن المقاومة من تنفيذ هذا النوع من العمليات . يصعب القضاء على هذه المعضلة بالأخص لإنها تعترض مع طبيعية الاحتلال في التوسع الاستعماري و إثبات مقدراته و”حقه” المزعوم . و أما المعضلة الأولى فهي صعبة القضاء عليها من المقاومة لسبب بسيط و هو عدم امتلاكها العدة الكافية لمثل هذا الانتشار و “عدم قدرة إسرائيل على قتل كل الفلسطينيين” كما أشار ألكسندر دوكين.
فتتجلى عبقرية المقاومة و الفصائل في استغلال الجغرافيا الغلافية لصالحها، و قد نجحت في السيطرة على مساحة تفوق ضعف غزة مما مثل صدمة للكيان الصهيوني و تجلي لضعف هيمنته.