أين عقلي … امرأة ذابلة في حضرة عقل مريض
«أين عقلي؟»…في عام 1974، اجتمع إحسان عبد القدوس بقلمه الجريء مع المخرج عاطف سالم بعدسته الواعية، ليقدّما معًا فيلمًا سابقًا لعصره، بعنوان “أين عقلي؟”، بطولة سعاد حسني ومحمود ياسين.
كتبت ماريان مكاريوس
لم يكن مجرد فيلم درامي تقليدي عن الخيانة أو المرض النفسي، بل صرخة سينمائية مبكرة ضد أنظمة القمع النفسي، وضد الذكورية المتحضّرة شكليًا، المتوحشة جوهريًا، التي تُعاقب المرأة على ماضيها، وتدمّرها ببطء، وهي تبتسم.
يبدأ الفيلم بمشهد شديد الرمزية: البطلة عايدة تجلس على كرسي هزّاز، حركة مستمرة بلا وجهة، اهتزاز مرهق بين العقل والجنون، بين الواقع والتخييل، وكأننا أمام مرآة داخلية لروح أنهكها التشكيك، لا تعرف على وجه التحديد هل هي مريضة فعلًا، أم ضحية عقل مريض يحاول أن يزرع فيها مرضه بالإيحاء.
عايدة شابة في أواخر العشرينات متزوجة من رجل ناجح علميًا ومجتمعيًا، طبيب ذو شأن، لكنه يعود من باريس مصابًا بانفصام قيمي حاد: رجل يزعم التحرر والتقدم، لكنه يحمل في داخله ذكورية قروية صارمة، لا يستطيع تجاوز فكرة فقدان العذرية، ولا يحتمل أن زوجته كانت تحب رجلًا قبله، حتى ولو لم ترتكب خطأ. يعود توفيق من الباجور بعقد الماضي، ملفوفًا بورق السلوفان الباريسي اللامع. الشرقي الذي تعلّم أن يُخفي المرض لا أن يعالجه، فقرر أن يصبّه على من أحبّها.
ببراعة إحسان عبد القدوس تتكشف الخيوط بالتدريج. طوال الربع الأول من الفيلم، يقتنع الجمهور فعلًا بأن عايدة مريضة نفسيًا، سلوكها يبدو مشتّتًا، تصرفاتها غير منطقية، كلماتها متقطعة، بينما زوجها يظهر بصورة المحب الصبور الذي يحتمل تقلباتها. تُزرع الخدعة بإتقان، ليُصاب المتفرج بصدمة حقيقية حين يبدأ طبيب نفسي مخلص في فك ألغاز الحكاية، ويظهر أن عايدة لا تعاني من شيء سوى التلاعب المتعمد بعقلها، والإسقاط القهري من زوجها على سلوكها.
هذا الزوج لا يكرهها بل يحبها على طريقته المريضة. يريد أن يُعاقبها باسم الحب، أن يُطهّرها من ماضيها، أن يُعيد تشكيلها لتلائم خيالاته المختلّة عن الطهر والأنوثة والشرف. عايدة في هذه العلاقة ليست سوى مرآة مشروخة يعكس فيها توفيق أزماته النفسية والذكورية التي لم يتجاوزها قط.
الفيلم يرصد ببراعة التحوّل البصري والنفسي في ملامح البطلة. نرى سعاد حسني في مشاهد “الفلاش باك” تظهر مشرقة، ضاحكة، ممتلئة بالحيوية، وهي في علاقتها الأولى مع خطيبها السابق. ثم نعود للحاضر، فنجدها شاحبة، ذابلة، بالكاد قادرة على التعبير أو الفرح. المفارقة المرعبة أن ما بين الصورتين ثلاث سنوات فقط، لكنها سنوات كفيلة بتحويل فتاة عشرينية إلى امرأة مسنّة داخليًا. هكذا يفعل المرض النفسي حين يُفرض قسرًا، حين تتورّط الضحية في تبرير العنف باسم العقل والحب والصبر.
ليس المرض هنا مرضًا عقليًا بالمعنى التقليدي، بل هو عنف معنوي مُمنهج، تمارسه السلطة الذكورية حين تدّعي المحبة، وهي تمارس السيطرة، وحين ترتدي قناع التقدّم وهي تقتل المرأة ببطء من الداخل. والكارثة أن هذا النمط لا يزال يتكرر حتى اليوم، بعد مرور أكثر من نصف قرن على إنتاج الفيلم. بل أصبح أكثر تعقيدًا مع انتشار مصطلحات مثل “نرجسي”، “سادي”، “مختل اجتماعيًا” وغيرها، تُستخدم بسطحية في الخطاب اليومي، لكنها تعكس أمراضًا حقيقية يعيشها البعض، دون أن يعترفوا بها أو يُعالجوا أنفسهم.
في هذا السياق يُطرح سؤال الفيلم الأهم: من هو المريض الحقيقي؟ هل المريض هو من تزعزع سلوكه نتيجة ظروف قاسية؟ أم من يُتقن ارتداء القناع الاجتماعي، ويمارس الإيذاء بدم بارد، وهو يعلم أنه لن يُحاسب؟ الإجابة يقدّمها الفيلم دون مباشرة: المرضى الحقيقيون لا يدخلون العيادات، بل يدخلون بيوت الناس، ويعيشون تحت سقف واحد مع ضحاياهم، ويُقنعون الجميع بأن المشكلة في الطرف الآخر، حتى تكاد الضحية نفسها تُصدّق ذلك.
يحاول الفيلم تقديم بارقة أمل: يبدأ توفيق في الاعتراف بمرضه، ويبدأ العلاج. لكنّ النهاية هنا سينمائية بالضرورة، لا تشبه الواقع. في الحياة الحقيقية، قلّما يعترف المريض النفسي بمرضه، خاصة إن كان رجلًا شرقيًا يربط الرجولة بالهيمنة. ولذلك يظل كثير من النساء، مثل عايدة، في دائرة الذبول، يعانين في صمت، يذبُلن كما تذبل الوردة في غرفة بلا شمس، بلا هواء.
نجح المخرج عاطف سالم في تقديم هذا التناقض البصري والنفسي من خلال إخراج محكم، استند إلى استلهام بصري من أداء سعاد حسني في فيلم “القاهرة 30″، حيث البؤس الطبقي والاجتماعي، وعكسه على شخصية “عايدة” التي تعاني من بؤس داخلي مختلف: بؤس ناتج عن القمع النفسي والذكوري، لا الفقر المادي. حتى الملابس والمكياج وتسريحات الشعر تم توظيفها ببراعة لتصوير التحوّلات النفسية للبطلة، لا لمجرد التجميل أو الإبهار البصري.
أما سعاد حسني فهي روح هذا الفيلم. أداؤها يتخطى التمثيل إلى المعايشة. استطاعت أن تُجسّد الذبول النفسي على مراحل: من البهجة الفطرية إلى الذهول، ثم الحيرة، ثم الصمت، ثم الانهيار. لم تكن “عايدة” مجرد دور، بل مأساة أنثوية متكررة.
في الختام، يبقى فيلم “أين عقلي؟” علامة فارقة في السينما النفسية والاجتماعية، ليس فقط لأنه سبق عصره في طرح الأسئلة الصعبة، بل لأنه لا يزال بعد خمسين عامًا مرآة للواقع. مرآة موجعة، لكنها ضرورية، حتى نعرف أن المرض الحقيقي ليس في “الجنون”، بل في التظاهر بالعقل بينما نمارس القتل البطيء لمن نحب.