عندما تكون الشعوبية مسممة للحياة .. عن تير براك وهولندا !!
مصطفى نصار
يعد الكاتب من أهم أعلام الفكر الهولندي الحديث ذلك لسببين ؛مينو تير براك كافح ضد النازية قبل الاجتياح النازي لهولندا في 14 مايو عام 1940 .و السبب الثاني هو أنه كان مثقفًا متوقدًا أسس حركة “تحذير المثقفين من النازية “بهولندا لعلمه أن النازية حركة مضطغنة مليئة بالحقد و الضغينة للجنس البشري كافة. و لذلك لقب بعدة ألقاب منها “ضمير الأدب الهولندي”. يتناول الكتاب سُبل سيطرة الشعوبية بتحليل مركز مختصرو يصفها بأنها أس الشر في المجتمعات من خلال النقد و التحليل و التركيز على لحظات و تفاصيل هامة مفادها “الضمير المعذب” سبيل التحرر من الشعوبية.
ما الشعوبية؟؟
يعرف قاموس أكسفورد الشعوبية بإنها حركة سياسية تتمسح بالشعب و تكتسب سلطانها منه .و يعرف قاموس كامبردج للعلوم السياسية بإنها أيدولوجية تكتسب الشريعة المزيفة من الديمقراطية اللالبيرالية. الشعوبية هنا تعني خداع الشعوب لنيل سلطة مزيفة من الشعوب .و بالعودة إلي ما قاله تير براك ،نجده مستعينًا بنفس الايدولوجيا التي أخرجت لنا الشعوبية و النازية و الفاشية ،ألا وهي الحداثة .الحداثة التي تعد الأم لكل الأفكار المتطرفة منها الشعوبية. و لذا أخرج لنا الأستاذ المرموق في كلية السياسة بجامعة هارفارد يان فيرنر مولر باعتبار الشعوبية “نتيجة منطقية للحداثة و الليبرالية” .و لهذا ،خصص مينو تير براك جزءً كبيرًا من هذا الكتيب في هذا الأمر.
و بالرغم من علمه أن الليبرالية و النازية وجهان لعملة واحدة ،فقد شكر فيها لإنها توفر المناخ اللازم و الملائم لحركة الشعوب و وعيها اليقظ. فقد لاحظ فوكوياما نفس الأمر ،فقد ضمن لليبرالية نقدًا لاذعا لها على المستوين السياسي و الأخلاقي في كتابه الذي أعزم على ترجمته”اللبيرالية و تسخطها”. ووصل الأمر به إلي أنه نقد رولز على المستوى السياسي “بوصفه باب لفتح الخلخلة الاجتماعية”.و هو ما يتشابه بحملات النقد الشنيعة لمونديال قطر 2022 لأسباب لا يصدقها عقول الحمقى و المجانين.
فالكتاب يستعين بنيشيه و يلر لهدم أسس الحضارة الغربية ،أو بمعنى أدق الشعوبية الحداثية. فوفقا للخيال الفلسفي الغربي ، فالإنسان غربي الأصل مادي الرؤية متمتع ببقية القيم الفردانية. هذا الأمر نتج عنه مفارقات عجيبة فعلى سبيل المثال لا الحصر، المثقف النمساوي ذائع الصيت كارل أنطوان روهان رأى أنه لا مانع في احتياج النازية لأوروبا كافة طالما أنها تحقق وحدة أوربا المسيحية المنشودة!!و لذا اعتبر الفيلسوف المصري عبد الغفار مكاوي أن شيلر هدم أسس كثيرة مزيفة و ذكر أنه قوض الأفكار الغربية على أساس عقلي محض. و يمكن أن يكون هذا تضمين و تعريف لمفهوم الحقد و الضغينة
الحقد و الطغنية …..وجهان لعملة واحدة
الحقد هو الكره و الإكراه على شيء ما. قد يتساءل البعض ما علاقة الأفكار الغربية بالمصطلحات المشحونة بالتطرف هذه. فيجيب الفقيه الدستوري صامويل موين أن التطرف في الأفكار و الظلم السائد قد أدت إلي كوارث أخلاقية و جرائم قانونية .وضرب مثلا غريبًا بحقوق الإنسان التي لم “تعد تسع رحبها العالم كله”. فقد أدت عدم سعة الصدر تلك لعدم توازن بين العالم . و قد يتجاوز الأمر لحين وصفها من بعض المفكرين الغربين مثل ريتشارد وولف ” بالعالمين غير المتوازيين”.
و هذا الأمر أيضًا ضمنه تير براك حينما تحدث عن الحركات المناهضة للنازية .ووصفها بأنها حركات تناهض الخطر الداهم و العنصرية حينها فقط ،ضرب لنا مثلًا بمنظر الزنًجة
“negroization” روزنبيرج الذي نظر للجنس الآري في المقام الأول. وهذا الأمر قد جعل الأوربيين أنفسهم يدقون المرار نتاج الأفكار الشعوبية لهذا ،التاريخ يشهد أن هذا الأفكار و إرهاصاتها قد أدت بالعالم لما أسماه باومان “السيولة المعيارية .و السيولة المعيارية هي ألا تكون لك معيار تحتكم إليه غير نفسك و عقلك .و هذا الذي جعل الفيلسوف الإيطالي بيكو ميراندلا يصنف الانسان المستنير على انه “يصبح ما يريد”.
الإنسانوية …..وجهة مترادفة للتنافر
و هذا الأمر له صلات وثيقة و عميقة التأثر و التأثير بالإنسانوية، أو مركزية الإنسان و التقديس المحيط بها.و لكن السؤال هنا ماذا لو زعزع هذا التقديس من حول هذا الإنسان .يجيب عن هذا السؤال علم النقد الثقافي الحديث و المؤرخ الهولندي يوهان هويزنجا بأن حل التقديس عن الإنسانية ينتج للتعاسة و الفراغ الدنيوي ،وليس الروحي فقط. فهذا أيضًا تحدث عنه تير براك حين أتى بأنطوان موشيرت مثلًا جليًا على الإنسان اللعوب. الإنسان الأعمى الذى يشجع الحقد دون وعي ،أو لاكتساب بعض المصالح التي من شأنها أن تنتهي
و فصل تير براك أيضا في أمور وعي الجمهور من حيث كونها نقطة تمركز للمشاكل أو الحلول. فيؤكد هنا كما قال كارل شميت الفيلسوف الألماني حينما عرض لمفهوم السياسي و مراده و مآلاته .
و من أعظم تلك ، المآلات هو التحكم بالقرارات الحياتية و نزع الإنسانية من العدو و لو كان هذا العدو هو من تحكمه ! و هو ما حدث مع هتلر حينما أكد أنه كان يسعى لنهضة ألمانيا و السعي الحثيث لذلك حتى و لو كلفه ذلك أرض بلا شعب في نهاية الأمر!!و هذا يحول من أمرين هامين .الأول هو كبح حق سعي الآخر لتحقيق سعيه البسيط .الأمر الثاني هو زيادة خوف الآخر من البناء في أوقات الحروب و الآرمات .ففي كتابها الصادر عام 1997،تخبرنا نان الين أستاذة المعمار و الجمال في جامعة شيكاغو أن المعمار الشاهق و غير المبني على الدراسة يزيد من خوف الناس للاعتراض عليه!!و اللافت للنظر أن اسم كتابها “معمارية الخوف “لقى صدى واسعًا في العلوم الإنسانية باعتباره كتاب يفسر الخوف بطريقة شائعة و غير منتبه إليها في نفس الوقت.
و في خاتمة الكتيب أوصى تير برك المثقفين و العامة بمواجهة الشعوبية لأنها فكرة خطرة للغاية تتمسك بحبال واهية .فالشعوبية مثلها كمثل النسوية تطالب بالحقوق دون تحديد .وهذا ما جعلها من مجرد أفكار بدأت بطلب حقوق و واجبات لفئات مهدورة حقها للتحول الجذري لأيدولوجيات و أديان وضعية تسعى للقضاء على الإنسان. و من المؤسف أن الكاتب مينو تير براك انتحر في 14 مايو 1940 ،دون أن يجد لدعواه و حياته جدوى!