المعادن النادرة… القلب الصامت للتكنولوجيا الحديثة

لم يكن يخطر ببال أحد أن مستقبل البشرية قد يُختزل في ذرات متناهية الصغر، لا يعرف معظم الناس أسماءها، ولا يشعرون بوجودها، ولا يدركون قيمتها الحقيقية. اعتدنا أن نعتقد أن العالم تُديره الجيوش والأموال والتحالفات السياسية، لكن الحقيقة أن موازين القوة تختبئ في أماكن لا تُرى، وفي مواد لا يلتفت إليها أحد، وفي عناصر نادرة يكفي غيابها لحظة واحدة كي تتعطل الحياة كما نعرفها.

بقلم/ إيمان سامي عباس

عناصر لا تُرى… لكنها تُحرّك كل شيء

هذه الذرات الخفية هي التي توقظ هاتفك كل صباح، وتُبقي الطائرات معلّقة في السماء، وتحرّك السيارات في الشوارع، وتمنح مراكز البيانات القدرة على تشغيل ذكاء اصطناعي يزداد نهمه للطاقة والمعالجات. إنها ليست معادن عادية، بل مجموعة من 17 عنصرًا تتمتع بخصائص مغناطيسية وبصرية وتوصيلية استثنائية، مثل النيوديميوم والديسبروسيوم والبراسيوديميوم، وهي عناصر لا يمكن لأي بدائل أخرى أن تحلّ محلها في الإلكترونيات المتقدمة والمحركات عالية الكفاءة.

الصين ومفاتيح السيطرة التكنولوجية

في عام 2024 وحده، أنتجت الصين نحو 270 ألف طن متري من المعادن الأرضية النادرة، أي ما يقارب 69% من إنتاج القارة بأكملها. غير أن الرقم الأكثر حساسية لا يتعلق بالإنتاج، بل بالسيطرة على ما يقرب من 90% من عمليات التكرير والمعالجة، وهي المرحلة التي تحوّل هذه المواد من مجرد صخور خام إلى مكونات تكنولوجية عالية الدقة تدخل في معظم الأجهزة الحديثه.

وقود الثورة الخضراء والذكاء الاصطناعي

هذه الأرقام ليست تفصيلاً عابرًا، بل تمثل مفاتيح العصر التكنولوجي. فالعالم يحتاج إلى هذه العناصر لتصنيع بطاريات ومحركات السيارات الكهربائية، ومغناطيسات توربينات الرياح، وأنظمة الأقمار الصناعية، ورقائق الحواسيب، وحتى أكثر نماذج الذكاء الاصطناعي تطورًا. سيارة كهربائية واحدة اليوم تستهلك مواد خاصة تفوق ما تحتاجه سيارة الوقود التقليدية بنحو ستة أضعاف، ومع توسع الدول في الطاقة الخضراء والذكاء الاصطناعي، يتضاعف الطلب على هذه العناصر غير المرئية.

ولا يتوقف الأمر عند حدود التكنولوجيا المدنية؛ فجوهر القوة العسكرية الحديثة نفسه مرتبط بهذه الذرات الصغيرة. أنظمة التوجيه الدقيق، والرادارات المتقدمة، وتقنيات الدفاع المتطورة تعتمد بشكل مباشر على معادن تُنتَج وتُعالَج في شرق آسيا. وحتى الولايات المتحدة، رغم تفوقها العسكري، لا تزال بحاجة إلى هذه المواد في مكونات حساسة يصعب تصنيعها محليًا.

أوروبا بين الاعتماد والبحث عن البدائل

وتتضح الصورة أكثر عند النظر إلى أوروبا، حيث انخفضت وارداتها من هذه المعادن بنحو 30% خلال عام 2024 مقارنة بالعام السابق. أما ألمانيا، عملاق الصناعة الأوروبية، فما تزال تعتمد على الصين بنسبة تقارب 65% لتأمين احتياجاتها من هذه المواد الحيوية. ورغم الجهود المتكررة لتقليص هذا الاعتماد عبر مشروعات استخراج جديدة وإعادة تدوير الإلكترونيات، فإن الطريق ما يزال طويلًا ومعقّدًا.

كاتبة المقال
إيمان سامي عباس

👁 عدد المشاهدات : 5,009

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *