العامية المعاصرة فؤاد حداد والخال معالم التجربتين المسيطرتين على المشهد الشعري “المقال الخامس”
كتب :عماد سالم
عندما وقفنا عند ملامح قصيدة العامية الجديدة التى تتميز بأنها خرجت عن النسق المعتاد فى القصيدة العامية المصرية المعاصرة ( فؤاد حداد .. عبدالرحمن الأبنودي)
كل شعراء العامية الذين يتصدرون المشهد الشعري فى مصر الآن فى جميع الأمسيات والندوات الشعرية وعلى وسائل التواصل الاجتماعي أما يدورون فى فلك فؤاد حداد أو يحاولون أن يتحدثوا بلغة الصعيد .. إن لم يكونوا من سكانه .. فيستنسخون صورا مشوهة أقل كفاءة من الخال العظيم عبدالرحمن الأبنودي .. فرأيت أن اقترب أكثر من تجربة أبوا الشعرا فؤاد حداد والخال عبدالرحمن الأبنودي لنرى السمات والخصائص ومعالم التجربتين المسيطرتين على المشهد الشعري العامى فى مصر .. وكيف استطاع شعراء العامية الجديدة الخروج عن هذا النسق .
وسأبدا فى هذا المقال بالعظيم فؤاد حداد الذى قال عن نفسه ( أنا أشعر مافى الأنس والجن ) وقد استعنت بمراجع صوتية وفيديوهات لنقاد وشعراء و لفؤاد حداد نفسه ولم أكتف بماكتب ونشر عنه من دراسات .
صدر للشاعر الكبير فؤاد حداد ٣٠ ديوان شعر ١٧ فى حياته و ١٣ بعد وفاته
كان يتناول فيها الواقع المصرى وكان يعبر عن أحلام البسطاء
همش فى حياته وأعيد اكتشافه بعد وفاته
وترجع أسباب التهميش إلى سبب سياسى وهو أنه كان ينتمى إلى حركة النضال الديمقراطى فى تنظيمات اليسار المصرى أواخر الأربعينات حتى وفاته وقد مرت هذه الحركة بتحولات مع النظام الناصرى .
تم اعتقاله سنة ٥٩ و ٦٥ وبعدها أعتقل فترات اعتقال أقل فى السبعينيات والثمانينات وكتب فؤاد حداد مجموعة ضخمة من القصائد فى هذه المرحلة منها
( أحرار وراء القضبان ) وهو أول ديوان له وديوان ( برج البلابل ) وديوان ( ايام العجب والموت ) ويظهر فيهم ملامح تجربة السجن والاعتقال .
مع أنه كان يحب عبدالناصر وكان أكثر ايمانا بعبدالناصر وقد رثاه فى قصيدة طويلة بعنوان استشهاد عبدالناصر حيت صوره فى إخلاصه أنه لم يمت بل هو شهيد مناضل وأنه من الدور الوطنى يعتبر شهيد هذه هى صورة الزعيم جمال عبدالناصر فى نظر وقلب فؤاد حداد .. رغم كل هذا ورغم أن هذه القصيدة كان يستخدمها الشيوعيون للتدليل بعلاقتهم الطيبة ب عبدالناصر إلا أن فؤاد حداد عانى من التهميش باستثناء فترات قليلة نشر فيها شعره فى هيئات رسمية وكانت هيئة الكتاب فى الستينات اسمها دار الكاتب العربى وقد تم نشر الأعمال التى اعتبرت من الاشعار التى تتسم بالدفاع عن نظام عبدالناصر أو داعمه ومؤيدة لعبدالناصر فى هلاقته مع الغرب فى هذا الوقت تم نشر ديوان ( بقوة الفلاحين وبقوة العمال) ونشر ترجمته الشهيرة لبول ألوار والشاعر لوى اردوك عن اللغة الفرنسية التى كان يتحدث بها بطلاقة ويتقنها وقد اصبحت هذه الأسعار هى الأساس الذى بنيت عليه قصيدة النثر التى ظهرت فى لبنان بعد ذلك .
كان فؤاد حداد مهتما بالقراءة والكتابة وكانت الكتابة عنده كموعد غرام مقدس فكان يقول إذا أراد أن يلتقى به احد ( قبل الساعة كذا لأن عندى كتابة أو قراءة )
لايحب الظهور ولا يحب المناصب ويرضى بالقليل وقد عمل فى روزاليوسف ليعبر عن نفسه دون أى مناصب تليق به .
اثرت تجربة الاعتقال كثيرا على التجربة الإبداعية لفؤاد حداد .. بعض الشعراء يحلو لهم أن يقولوا أن النبرة الايقاعية التى تتميز بها أشعاره متعمدة وأنه كان يحب الموسيقى العالية فى الشعر ولكنى اقول إن سبب هذا هو سهولة الحفظ و التدوين
العامية المعاصرة فؤاد حداد والخال معالم التجربتين المسيطرتين على المشهد الشعري “المقال الخامس”
كان فؤاد حداد مسجونا وكان يقرأ ويدون ولزم الايقاع لسهولة الحفظ .
وعن علاقته بصلاح جاهين وأيهما افضل أو أسبق فى الشعر كان صلاح جاهين يكتب الفصحى وعندما سمع فؤاد حداد انتقل إلى العامية و قال جاهين فى مقدمة أحد دواوينه : ( فؤاد حداد أشعر منى ولكن انا أشطر منه)
كان فؤاد حداد يكتب القصيدة التى تتميز بأنها تحمل فخامة وقوة الشعر العربى
فى دواوينه ( النقش باللاسلكى) وديوان ( عيل على المعاش ) كان عنده الطموح لكتابة قصيدة النثر كفن جديد لكن فؤاد حداد يمكننا أن نقول إن قصيدته فيها تقاليد الشعر العربى الكلاسيكية بمعنى وحدة البيت وليس وحدة القصيدة بمعنى أننا يمكننا أن نأخذ بيتا واحدا من قصيدة فؤاء حداد يكون ايقونه لنا مستقل بذاته ونتخذه شعارا ملهما لنا بعكس صلاح جاهين الذى كان يتميز شعره بوحدة القصيدة ماعدا الرباعيات وهذا حدث بفعل التحولات التى مرت بها القصيدة العربية والعامية بالتبعية كما قولنا سابقا نفس العوامل المطورة لقصيدة الفصحى هى نفسها -إلى حد كبير – هى التى طورت شعر العامية حتى وصلنا إلى قصيدة النثر .
كان فؤاد حداد أرستقراطيا .. ثقافة فرنسية خريج الفرير يتحدث الفرنسية بطلاقة والده سليم حداد استاذ جامعى ووالدته سيدة لبنانية مثقفة قوية الشخصية تتحدث الفرنسية بطلاقة فى البيت ومع اولادها مما جعل فؤادا حداد يتحدث الفرنسية بطلاقة ويشعر بها ومعانيها وليس مجرد ترجمة حرفية فكانت ترجمته للاشعار ترجمة شاعر لديه موهبة وثقافة ووعى وهو الذى عرفنا قصيدة النثر عن طريق الترجمة تجربة قصيدة النثر فى فرنسا وترجم معظم الشعر الفرنسى الذى اعتبر مرجعا لقصيدة النثر خاصة فى لبنان .
كان الأغنياء والمثقفون هم الذين يقبلون على الأفكار اليسارية وليس عجيبا أن فؤاد حداد ينتمى لليسار المصرى رغم أنه غنى لينن نفسه كان غنيا معظم رموز اليسار فى العالم الذين يدافعون عن حقوق العمال والفلاحين والفقراء هم من الطبقة البرجوازية الذين ساقتهم أفكارهم وثقافتهم لتبنى حقوق الإنسان الفقير المقهور فى العالم.
وهنا يظهر لنا سؤال ملح آخر وهو لماذا ظل فؤاد حداد فى ذهن هذا الجيل رغم أنه من الآباء المؤسسين ؟! لماذا تعنى بأشعاره شباب مصر فى ثورة ٢٥ يناير وكيف للشباب الذين ثاروا على الآباء المؤسسين عموما وتمردوا على كل شيء يستدعوا رمزا لأبواب الشعراء فؤاد حداد كانت أغانيه هى الحاضرة فى الميدان والأجابة هى أنه فؤاد حداد الشاعر العالمى وادأنا أرى أن الشاعر انسان عالمى الشاعر الحقيقى يعبر عن العالم فقد تحدث عن الحرية والديمقراطية والعيش والكرامة الإنسانية كان ينادى بها قبل أن يولدوا ويصيروا شبابا ويتغنوا بها فى الثورة
هل قرأ فؤاد حداد بشكل جيد ؟
قولا واحدا لا .. لم يقرأ فؤاد حداد بالشكل الجيد ويرجع ذلك إلى سببين أولهما الإيمان الشديد به وهو الذى ساهم فى ظلمه فالتعصب له أضفى نوعا من القداسة فلم يناقش بشكل صحيح
وثانيهما الجهل الشديد به ظلمه أيضا
ولعل الانتاج الغزير اخضعه للتنميط والاختزال والاختصار فى مجموعة أغانى أو المسحراتي فلم يبذل الباحث الجهد المناسب وربما استسهل فبدل ان يقرأ ٣٠ ديوانا اكتفى ببعض الأغانى والمسحراتى وهذا لايمثل إلا القليل من الإبداع الكبير الذى انتجه والد الشعراء فؤاد حداد
كان فؤاد حداد منفتحا على الهوية ..أصوله اللبنانية أثرت .. هوية عربية إسلامية
ووتعليم وثقافة فرنسية فتحت قلبه وعقله وذهنه وجعلته إنسانا منفتحا كان يرى نفسه عالمى
..المصرى .. الشامى ..القبطى ..اسلامى .. عربى الشيوعى واليسارى
كان يتعامل على أساس أنه مواطن عالمى
و الشاعر الحقيقى هو شاعر عالمى
لماذا يقال أن فؤاد حداد هو رائد شعر العامية مع أن بيرم التونسي كان بسبق تاريخيا فؤاد حداد ..
لقد تطور الزجل ووصل لمرحلة تطور كبيرة على يد أمير الزجل بيرم التونسي .. فقد كتب فى كل شئ وديوانه أكثر من ألف صفحة الزجل وصل إلى القمة مع بيرم .. ولكن شعر بيرم كان يحمل ألفاظا معبرة مباشرة لتعبر عن موضوع محدد بطريقة مباشرة وقد وصل به بيرم التونسي إلى اعلى قمته وكان على فؤاد حداد أن يعمل على نقله إلى مرحلة الشعر .. إلى الإستعارة .. والمجاز والتأويل لمعان كثيرة والبعد عن المباشرة وقد كان فؤاد حداد مؤمنا بأن العامية المصرية لغة خصبة ويمكنها أن تحمل كل ما حملته اللغة العربية الفصحى من بناء فنى للقصيدة العربية فهو يرى كما نحن نرى أن العامية هى ابنة الفصحى .
كان بيرم امتداد لإنجاز عبدالله النديم شاعر الثورة العرابية وجاء بيرم وطور هذه التجربة
كما فعل فؤاد حداد حينما أخذ تجربة بيرم لتطويرها ولأول مرة يطلق على شعر العامية كلمة قصيدة بفضل تطوير فؤاد حداد للقصيدة التى أصبحت لاتقل عن الشعر العربى الفصيح فى أى شئ من الناحية الفنية الخاصة بالتصوير والعمق والتجربة
وذلك لأن فؤاد قد استشعر امكانيات فى العامية المصرية يمكنها من التطوير
ومن هنا جاءت فكرتنا وهى عدم التقديس والإيمان بالتطور عندما اقترب بيرم التونسي من تجربة عبدالله النديم شاعر الثورة العرابية لم تسحقه التجربة و لم يقدسها اعجب بها وأمن بها وعمل على تطويرها حتى جاء فؤاد حداد ليفعل نفس مافعله بيرم بأزجال عبدالله النديم وانتقل بنا إلى قصيدة العامية العظيمة التى نعيش فى كنفها الآن .
لأرض بتتكلم عربى وقول الله
ان الفجر لمن صلاه
هذا كلام عن فؤاد حداد هذا الكلام المقاوم الذى دهش به العالم العربي
كان يحتاج أعمارا كثيرة كى ينجز مشروعة الكبير شاعر لم يتكرر .. يصعب تعريفه .. صفاته متناقضة ..مسلم مسيحى ..مصرى لبنانى ..عربى قومى وشيوعى
أسره حداد من لبنان أسرة مسيحية بروستانتية والده سليم حداد أستاذ جامعى متعصب للغة العربية وزوجته تتحدث الفرنسية فى البيت طوال الوقت .. لم يدخل منزلهم إلا مدرس الخط العربى
وكان فؤاد حداد متفوقا ولبقا فى الفرنسية .
ولد فؤاد حداد ٢٨ أكتوبر ١٩٢٨.وتوفى ١٩٨٥
كانت مصر جاذبة للمسيحيين العرب أيام الخديوى إسماعيل وأيام النفوذ الأوروبى الكبير والبعد عن السلطان العثمانى مما اثرى الحياة الثقافية فى مصر
تلقى تعليمه الممتازو انضم إلى التنظيم الشيوعى مع أنه من أسرة غنية
من هنا نجد انتا أمام شخصية عالمية مختلفة شخصية لم يختر اى شخص لها مصيرها فهى اختارت كل شيء
العامية المعاصرة فؤاد حداد والخال معالم التجربتين المسيطرتين على المشهد الشعري “المقال الخامس”
استطاع فؤاد حداد أن يكتسب ثقافته الواسعة من خلال ترجمته للشعر الفرنسى واطلاعه على الأدب العالمى .. ناظم حكمت .. وغيره كما أن تكوينه العربى المتين وعلاقته بشعر الأوائل كان له النصيب الأكبر فى تكوينه الشعرى
شخص مختلف مؤسس فارس اختار وطنه ولم يفرض عليه ..واختار دينه ولم يستمر فيما كان عليه اسرته كما انه اختار الانتماء للفقراء وتحيز لهم من خلال الحزب الشيوعى وهو فى العشرين من عمره وهو من أسره غنية أرستقراطية هذه الصفات جعلته لم يسحق ولم ينبهر ببيرم التونسي وأخذ الشعر فى مكان آخر وطور كل شيء حتى أطلق لأول مرة على الشعر العامى كلمة قصيدة بفضل فؤاد حداد
وجاء عشرات الشعراء العظماء الذين ابدعوا آلاف القصائد لكنهم جميعا مع عظمتهم وإبداعهم الجميل لم يخرجوا عن نسق فؤاد حداد والشعراء العظماء الذين يتحدثون بلهجة الصعيد والريف الجميل كلهم رغم عظمتهم إلا أنهم جميعا لم يتجاوزا الخال عبدالرحمن الأبنودي.. ليس هذا فقط بل سحقتهم التجربة العظيمة ولم يستطيعوا أن يتجاوزوها وقد اعترفوا جميعا بذلك ..
فى العشرين عام الأخيرة أستطاع بعض شعراء العامية الكبار أن يقوموا بدوركبير فى الخروج عن نسق قصيدة فؤاد حداد وعبدالرحمن الأبنودى كما ظهر جيل جديد من الشعراء يحاول أن يخرج عن هذا النسق متجهين بقوة للعامية الجديدة ( عالمية القصيدة ) وقد قرأت نصوصا لهم ودواوين وقررت أن أكتب عنهم وأحاول أن أشعل شمعة يراها النقاد ويدلون بدلوهم .. انتظر أهل التخصص .. نحن رصدنا وأعلنا ان هناك جديد يكتب وأن هناك شعراء مختلفون وقد أطلقنا عليهم شعراء العامية الجديدة وأقمنا لهم أول مهرجان فى مصر فى التاسع من سبتمبر ٢٠٢٣ وقد لاقى نجاحا كبيرا واقبالا مصريا وعربيا وجماهيريا غير مسبوق .. ننتظر حاضنة نقدية متخصصة لهذا المشروع الكبير اخلاصا للشعر الذى نحتاج إليه ونعيش معه وبه فنحن من هؤلاء الذين يمثل الشعر لهم ضرورة إنسانية نعيش معه وبه وله .
……… …..
انتظروني قريبا فى المقال القادم عن الخال العظيم عبدالرحمن الأبنودي
مهرجان_شعراء_العامية_الجديدة
المهرجان_الثانى
الإسكندرية_٩_نوفمبر_٢٠٢٣
رئيسا_المهرجان
محمد عبدالهادي و عماد سالم
العامية المعاصرة فؤاد حداد والخال معالم التجربتين المسيطرتين على المشهد الشعري “المقال الخامس”